تحليلات

العملية العسكرية التركية في شمال سوريا والعراق.. الدلالات والمآلات

خاص– اتجاهات

 

مقدمة

بعد اشتداد الأزمة السورية وخروج مناطق الشمال السوري عن سيطرة الدولة السورية، عمد عناصر المنظمات الكردية المتمركزون في شمال شرق سوريا إلى بسط سيطرتهم على المناطق الواقعة شرقي نهر الفرات، وذلك بدعم أمريكي وغربي بشكل عام، مما سهل لهم التواصل مع الأكراد المتمركزين في شمال العراق، والذين يُصَنّفون من قبل الدولة التركية على أنهم تنظيم إرهابي، ويقومون بتنفيذ هجمات مسلحة ضد تركيا، وهو الأمر الذي عدّته تركيا تجاوزاً للخطوط الحمراء وتهديداً مباشراً لأمنها القومي، وبالتالي، فقد احتفظت أنقرة بحق الدفاع عن نفسها أمام هذا المهدد، ونفّذت عدداً من العمليات العسكرية في الشمال السوري والشمال العراقي لمواجهة المنظمات الكردية.

في منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، هزّ انفجار عنيف شارع الاستقلال وسط مدينة إسطنبول التركية، قُتل على إثره 6 أتراك وأصيب عدد آخر، وفي أعقابه وجهت تركيا أصابع الاتهام إلى المنظمات الكردية المتمركزة في شمال سوريا والعراق مؤكدةً أنها هي من دبرت هذا الهجوم، وتوعدت تركيا بالرد على هذه العملية، حيث أعلنت بدء عملية عسكرية جديدة تحت اسم “المخلب- السيف” واستهدفت عشرات المواقع الكردية شمال سوريا والعراق.

 

نناقش في هذه القراءة التحليلية دلالات العملية العسكرية الجديدة التي تنفذها تركيا حالياً في شمال سوريا والعراق، ومجرياتها، ونستشرف مآلاتها.

 

أهداف العملية العسكرية التركية

دائماً ما تحدد تركيا مواجهة المنظمات الكردية “الإرهابية” هدفاً لعملياتها العسكرية، حيث تعكف تركيا على إنشاء منطقة “حزام آمن” بعمق 30 كم في الأراضي السورية، لمنع أي هجمات تهدد الأمن القومي التركي.

إضافة إلى ذلك، تطمح تركيا إلى توظيف هذه المنطقة الآمنة لإعادة اللاجئين السوريين إليها، كما صرح عدد من المسؤولين الأتراك خلال العمليات العسكرية السابقة (درع الفرات 2016، نبع السلام 2019).

 

أشكال العملية العسكرية التركية

تأخذ العملية العسكرية التي تقوم بها القوات التركية في الوقت الراهن شكلاً واحداً فقط، وهو الضربات الجوية باستخدام المقاتلات الحربية والطائرات المسيرة، والتي تستهدف مواقع وخطوط إمداد المنظمات الكردية، وقد أعلنت تركيا عن تحييد المئات من عناصر المنظمات الكردية، فيما تتواصل عمليات القصف وسط تلويح تركي بالانتقال إلى الهجوم البري، لكن يبدو أن تركيا تعطي مساحة من الزمن للضربات الجوية وإمكانية تحقيق أهداف العملية العسكرية من خلالها، وكذلك منح الجهود السياسية فرصة لإزالة التهديد عن تركيا، خصوصاً في ظل الوجود الأمريكي في المنطقة.

 

الوجود الأمريكي في شمال سوريا والعراق

تنظر الولايات المتحدة الأمريكية للأكراد على أنهم حلفاء استراتيجيين، وتنظر لمنطقتهم في شمال سوريا والعراق على أنها منطقة عمق استراتيجي يجب على الأمريكيين التواجد فيها بثقلهم الأمني والعسكري، وتحت حجة مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية وكبح التمدد الإيراني في المنطقة، تعمد الولايات المتحدة الأمريكية إلى استخدام الأكراد كأداة لابتزاز تركيا في أمنها القومي، حيث تدعم الولايات المتحدة الأمريكية الأكراد بالمال والسلاح والمعلومات وتوجههم للتأثير في تركيا.

يمكن الربط ما بين الوجود الأمريكي وما بين أهداف العملية العسكرية التركية ومساراتها، بأحد سيناريوهين:

  • أن الوجود الأمريكي قوي، وبالتالي يستطيع توجيه الأكراد لتنفيذ هجمات ضد تركيا، وعليه فإن العملية التركية ضد المنظمات الكردية ستستمر من الجو فقط دون الدخول البري، بهدف إضعاف هذه المنظمات وتقليل تأثيرها، ثم التفاوض مع أمريكا وتقليل تدخلاتها في الشأن التركي.
  • أن الوجود الأمريكي ضعيف، وبالتالي ستتوسع العمليات العسكرية التركية ويمكن الدخول برياً إلى مناطق شمال سوريا والعراق، ذلك لأن الأمريكيين لن يتدخلوا كثيراً لإنقاذ حلفائهم الأكراد، وهو ما يسمح للأتراك بتحقيق أهداف العملية العسكرية.

 

والمرجح، هو أن العمليات العسكرية التركية لن تذهب باتجاه الدخول البري في الوقت المنظور، لأن الوجود الأمريكي في المنطقة قوي.

وعلى الرغم من أن الوجود الأمريكي قوي في المنطقة ولا يزال ينظر إلى الأكراد على أنهم حليف استراتيجي، إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تدعم الأكراد ضد تركيا؛ نظراً لأمرين:

  1. تركيز الولايات المتحدة الأمريكية في الوقت الراهن أغلب جهودها في دعم أوكرانيا ضد روسيا.
  2. رغبة الولايات المتحدة الأمريكية في المحافظة على علاقات متزنة مع تركيا التي تلعب دور الوساطة في الحرب الروسية الأوكرانية، وعدم رغبتها في ضياع حالة التحالف مع تركيا؛ لأن البديل سيجبر تركيا على التوجه إلى التحالف مع روسيا وإيران والصين.

 

مآلات العملية العسكرية التركية في شمال سوريا والعراق

يمكن متابعة مسار العملية العسكرية التركية شمال سوريا والعراق من خلال سيناريوهات متعددة، لكن في المجمل لا يمكن فصل العملية العسكرية الحالية عن سابقاتها من العمليات العسكرية (درع الفرات، نبع السلام)، وهذه السيناريوهات كما يأتي:

  • السيناريو الأول: تصاعد العمليات التركية في شمال سوريا والعراق، بحيث تكون الضربات الجوية هي بداية العملية الشاملة، ثم يبدأ الجيش التركي اجتياحه البري للمناطق المحددة في شمال سوريا والعراق.
  • السيناريو الثاني: اكتفاء الجيش التركي بالضربات الجوية وإنهاء العمليات، وهذا يعني عدم الدخول برياً إلى شمال سوريا والعراق، وحينها يمكن لتركيا أن تعلن تحقيق أهدافها من العملية.
  • السيناريو الثالث: بقاء المنطقة في حرب استنزاف بين الجانبين، التركي والمنظمات الكردية، دون حسم المعركة من أي جانب.

والمرجح من بين هذه السيناريوهات هو الثاني والذي يشير إلى اكتفاء الجيش التركي بالضربات الجوية ضد معاقل المنظمات الكردية، وذلك لاعتبارين أساسيين:

  1. أن هناك حديثاً تركياً عن إعادة العلاقات مع دمشق، حيث من السهل على تركيا ودمشق الاتفاق على مواجهة المنظمات الكردية، نظراً لأن البلدين يعتبران الأكراد مهدداً أمنياً لهما، وعند عملية التفاوض تحتاج تركيا إلى وجودٍ قوي لها على الأرض.
  2. أنه وفي ظل التنسيق الأمني التركي الأمريكي، يمكن وضع حد للمنظمات الكردية، حتى ولو كان حلاً مرحلياً يمنع الأكراد من تنفيذ هجمات في تركيا، ولهذا سعت تركيا لتنفيذ العملية العسكرية لتقوية موقفها خلال التفاهم مع الولايات المتحدة الأمريكية.

 

يتضح مما سبق أن الهدف من العملية العسكرية التركية في شمال سوريا والعراق يتمثل في إقامة منطقة عازلة لحماية الأمن القومي التركي من هجمات المنظمات الكردية، لكن ومن خلال العودة إلى عمق المشكلة الممتدة منذ عقود، يمكن الاستنتاج أنه وبالرغم من الخطوات التركية، إلا أن مشكلة الأكراد ستبقى قائمة ولا يمكن حلها بشكل جذري، حيث تستمر الدول الغربية في دعم الأكراد واستخدامهم كأداة لتحقيق الأهداف الغربية في المنطقة، دون دعم مطالبهم بإقامة دولة مستقلة لهم، أو تقديم أي حلول سياسية بينهم وبين أنقرة.

 

للاطلاع على التحليل بصيغة PDF اضغط هنا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى