دراسات

مسارات التطبيع العربي “الإسرائيلي” بعد عودة نتنياهو للسلطة

مركز اتجاهات للدراسات والأبحاث

مقدمة

شهدت العلاقات العربية “الإسرائيلية” منحناً خطيراً بعد موجة الحراك الشعبي العربي التي أدت إلى سقوط أنظمة سياسية كانت تعتبر محورية في المنطقة، ودخول أنظمة أخرى في أتون الحرب الأهلية، ترافق ذلك مع بروز الصراع الطائفي والمذهبي بين دول الخليج وعلى رأسها السعودية وبين إيران، مما ساعد “إسرائيل” على طرح نفسها كحليف استراتيجي لدول الخليج في مواجهة التمدد الإيراني في المنطقة.

لقد دفع نتنياهو الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة ترامب للتشدد تجاه إيران وبرنامجها النووي مقابل تطبيع دول الخليج علاقتها مع “إسرائيل”، بحيث لا يتم ربط علاقتها معها بإيجاد تسوية للقضية الفلسطينية، وقد نجح في الوصول لهذه المعادلة، فوقّعت الإمارات والبحرين اتفاقيات تطبيع مع “إسرائيل” دون الالتزام بالمبادرة العربية.

يسعى نتنياهو بعد عودته لرئاسة الحكومة مرة أخرى إلى تعزيز مسار التطبيع مع الدول العربية؛ ليخدم بقائه في السلطة أكبر قدر ممكن كإنجاز سياسي وشخصي له، لذلك عين رئيس الموساد السابق “إيلي كوهين” الذي نسّق اتفاقيات التطبيع مع الدول العربية وزيراً للخارجية، في محاولة منه لدفع مسار التطبيع للأمام مرة أخرى.

عودة نتنياهو للحكومة تفتح الباب أمام مجموعة من التساؤلات الجوهرية، منها: ما إمكانية عودة مسار التطبيع للواجهة مرة أخرى بعد تولي نتنياهو رئاسة الحكومة؟ وهل يمكن أن ينجح نتنياهو في ظل تركيبة حكومته المتطرفة في إحداث اختراق جديد في البيئة الإقليمية؟ وما هي السيناريوهات المتوقعة لمسار التطبيع خلال الفترة المقبلة؟

أولاً: التطبيع “الإسرائيلي” الخليجي والقضية الفلسطينية

لا شك أن التحولات في البيئة الإقليمية قد ألقت بظلالها على الصراع العربي “الإسرائيلي”، وخاصة على القضية الفلسطينية، بسبب تشابك العلاقة الفلسطينية و”الإسرائيلية”، والتأثير المباشر لأي حدث عربي أو إقليمي على القضية الفلسطينية، حيث شهدت المنطقة العربية خلال السنوات الأخيرة اضطراباً في ملامح النظام الإقليمي جراء التحول البنيوي الذي أحدثته الثورات العربية على المنطقة، وقد أكسبت تلك الأحداث “إسرائيل” مجموعة من الفرص التي ساعدتها على التقدم نحو الولوج إلى عملية تطبيع مجانية مع عدد من الدول العربية عبر بوابات خلفية.

ففي منطقة محفوفة بالاضطرابات والحروب الأهلية المتفشّية والتحالفات الجيوسياسية المتغيّرة والتنافس بين التحالفات المتخاصمة، اكتسبت هذه الدينامية أهمية استراتيجية قوية من الجهة الخليجية بشكل خاص، وفيما بقيت العلاقات الرسمية مع “إسرائيل” لفترة طويلة مقيَّدة بغياب القدرة على إيجاد حلّ للصراع الفلسطيني “الإسرائيلي”، أعطت قدرة الحركة الوطنية الفلسطينية المتضائلة على التأثير في السياسات الإقليمية للدول الخليجية حيّزاً أوسع لمنح مصالحها الأولوية على حساب المصالح العربية([1]).

مع انطلاقة الربيع العربي شعرت “إسرائيل” في بداية الأمر أن هذه التطورات والأحداث سوف تضر بمكانتها الإقليمية (مرحلة الصدمة)، إلا أنها تراجعت لاحقاً عن هذا الوجه “العلني المراوغ” إلى توجه يهدف لإبقاء الوضع على ما هو عليه، رغم محاولات السلطة الفلسطينية لإعادة تدويل القضية الفلسطينية في الأمم المتحدة([2]).

ترى “إسرائيل” إنها استطاعت تجاوز القضية الفلسطينية من خلال النموذج الحالي (الفوضى الخلاقة)، فليس ثمة من يمكنه تحدي قدرة “إسرائيل” على الإبقاء على الوضع الحالي فيما يتعلق بمسألة الأراضي الفلسطينية، أو من يمكنه فرض تكاليف باهظة عليها في حال استمرار الاحتلال، لقد فاقمت حالة التنافس بين اللاعبين الإقليميين من حالة الفرقة في الداخل الفلسطيني، كما سمحت لـ “إسرائيل” بالولوج إلى منطقة الخليج وبناء علاقات تعاون أمنية وسياسية واقتصادية بعيداً عن القضية الفلسطينية والتسوية السياسية.

الصراعات العنيفة في سوريا والعراق وليبيا واليمن – على سبيل المثال لا الحصر – جمعت أجندات السياسات الأجنبية لقادة العالم، مما يعني أن كثيرين يرون أن القضية الفلسطينية ذات تبعات استراتيجية أقل مما كانت عليه بالنسبة للشرق الأوسط. وطالما وصف نتنياهو دولته “إسرائيل” بأنها شريك أساسي للحكومات العربية في قضايا محاربة الإرهاب والإسلام الأصولي وإيران، وهم الخصوم الثلاثة الذين يخلط دائماً بينهم([3]).

يعتبِر الفلسطينيون التطبيع خروجاً على المبادرة العربية التي أطلقها الملك السعودي الراحل “عبد الله بن عبد العزيز” وتبنتها قمة بيروت العربية عام 2002. طرحت المبادرة سلاماً كاملاً مع الدول العربية، بشرط انسحاب “إسرائيل” الكامل من الأراضي العربية المحتلة في يونيو/ حزيران 1967 بما في ذلك الجولان، والتوصل إلى حل عادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين وفقاً لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194، وقيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية.

منذ مؤتمر مدريد للسلام والتوقيع على اتفاق أوسلو بدأت “إسرائيل” في البحث عن تحويل السلام البارد مع أنظمة الحكم إلى سلام دافئ من شعوب المنطقة، عبر فتح عدة مكاتب تجارية تمثل المصالح التجارية والثقافية لها في المنطقة، فقد عقدت تبادلات تجارية مباشرة مع سلطنة عُمان وقطر في عام 1996، وأقام البلدان مكاتب تجارية تمثيلية لهما في تل أبيب، ليوقع الكيان اتفاق السلام الثالث مع الإمارات والبحرين في 15 سبتمبر 2020([4]).

في منتصف شباط/ فبراير 2017، وخلال زيارته الأولى لواشنطن للقاء الرئيس الأميركي “دونالد ترامب”، صرح نتنياهو بأن “بلدان المنطقة العربية لم تعد ترى في إسرائيل عدواً، بل حليفاً” وفي 27 أيلول/ سبتمبر 2018، قال بنيامين نتنياهو، في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، أن الاتفاق النووي مع إيران “قرّب أكثر من أي وقت مضى إسرائيل من دول عربية عدة، باتت اليوم أقرب إلى إسرائيل، على أساس علاقات حميمة وصداقة”، وأضاف: “آمل أن تصل إسرائيل في يوم قريب إلى توسيع نطاق السلام، السلام الرسمي، ليتجاوز مصر والأردن ويشمل جيراناً عرباً آخرين”([5]). ومع أنّ الاتّفاقيات الدبلوماسية التي وقّعتها الإمارات العربية المتّحدة والبحرين مع “إسرائيل” في العام 2020 شكّلت تقدّماً لافتاً في العلاقات، إلا أن خطوط التواصل والتعاون بين الدول الخليجية و”إسرائيل” ليست بالأمر الجديد، فقد أنشأت عدّة دول في المنطقة صلاتٍ بها في لتسعينات القرن الماضي بعد أن وقّعت منظّمة التحرير الفلسطينية و”إسرائيل” اتّفاقيات أوسلو([6]).

تلاقت “إسرائيل” والمحور الخليجي على قضيّة مشتركة عبر محاولتهما توجيه السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط باتجاه يفيد الطرفين وبشكل خاص، فقد اعتبروا سعي إدارة أوباما إلى إبرام اتفاقية نووية مع إيران وبالتالي إنهاء العزلة الإيرانية أمراً مقلقًا وخطيراً. وبات العثور على طرق لمواجهة أجندة إدارة أوباما فرصةً للجهتين للعمل معاً من دون تدخّل أمريكي، وهذه خطوة لافتة في تطوّر هذه العلاقة، والقاعدةَ اللاحقة للعمل مع إدارة ترامب التي استلمت السلطة في العام 2017([7]). لذلك حاولت إدارة ترامب تأسيس تحالف يضم “إسرائيل” وعدة دول عربية، بهدف خلق شرق أوسط جديد، يلعب العرب فيه دوراً هامشياً خادماً لمصالح واشنطن و”إسرائيل” من دون اكتراث بأي مصالح حقيقية للشعوب العربية. وآمنت إدارة ترامب أن من شأن آلية التحالف العسكري أن تقرب بين “إسرائيل” والدول الخليجية لما يجمعها من هدف رئيسي يتمثل في مواجهة التهديدات الإيرانية، ومن أجل ذلك قدّمت الإدارة الأمريكية دعماً شبه مفتوح للجهتَين وانسحبت من الاتفاقية النووية لخطّة العمل الشاملة المشتركة التي أطلقها أوباما وطبّقت حملة “الضغط الأقصى” على إيران([8]).

اتفاقيات “أبرهام” التي تم التوقيع عليها في البيت الأبيض برعاية أمريكية كانت تهدف إلى تغيير معالم السياسة الإقليمية والعربية والخليجية تحديداً في التعامل مع “إسرائيل”، عبر محاولة بناء تحالف استراتيجي يتجاوز محددات الموقف العربي الرسمي القائم على فكرة الأرض مقابل السلام، لفكرة السلام مقابل السلام، بدون الربط بين القضية الفلسطينية كقضية مركزية وبين السلام مع “إسرائيل”.

ثانياً: مسارات التطبيع بين الإدارات الأمريكية والتأييد الشعبي

شهدت الأشهر الأخيرة من حكم الرئيس دونالد ترامب التوقيع على عدد من اتفاقيات السلام بين “إسرائيل” وعدد من الدول العربية، تحت ضغوط كثيرة ومتعددة استخدم فيها العديد من الأساليب لدفع هذه الدول للدخول في مسار التطبيع، بهدف تقديم دعم سياسي لترامب في الانتخابات الرئاسية التي خسرها أمام المرشح الديمقراطي جو بايدن.

لكن عقب خروج ترامب من البيت الأبيض عام 2020 نتيجة هزيمته في الانتخابات أمام المرشح الديمقراطي جو بايدن، تراجع مسار التطبيع قليلاً، نتيجة اختلاف توجهات الإدارات الديمقراطية عن توجهات الإدارات الجمهورية حول الملف النووي الإيراني، وطريقة التعامل الأمثل مع التوسع الإيراني في المنطقة.

لقد برزت ظروف سياسية وأمنية واستراتيجية أخرى ساهمت في تراجع حدة مسار التطبيع مع “إسرائيل”، فعقب خروج ترامب من البيت الأبيض، حدث تحول مهم في السياسة الخارجية الأمريكية، بالعودة لسياسة المهادنة مع إيران، وفتح باب المفاوضات حول عودة الولايات المتحدة الأمريكية للاتفاق النووي، هذا الأمر أرسل رسالة للإقليم أن التطبيع وإقامة “ناتو عربي إسرائيلي” لا يشكل أولوية على أجندة إدارة بايدن، رغم أن التطبيع بين أي دولة عربية و”إسرائيل” يمثل هدفاً رئيساً للبيت الأبيض بعيداً عن هوية الرئيس القابع داخله أو انتمائه الحزبي، ولا يختلف الأمر كذلك في الجانب “الإسرائيلي” الذي يرى في أي خطوة تطبيعية مع أي دولة عربية نجاحاً لا يرتبط بهوية رئيس وزرائها أو انتمائه الحزبي([9]).

ساهمت التحولات السياسية الدولية والإقليمية في تراجع مسار التطبيع، كما ساهم غياب وجود حاضنة شعبية مؤيدة للتطبيع، نتيجة سلوك الحكومات “الإسرائيلية” غير المشجعة لقبول “إسرائيل” في المنطقة، خاصة في ظل تكرار الحروب على غزة، والاقتحامات المتكررة للمسجد الأقصى المبارك من قبل المستوطنين، والعدوان المتكرر على سورية وغيرها من المناطق.

برغم المحاولات العديدة للتطبيع وجعل الشارع العربي يتقبل “إسرائيل” ضمن نسيج المنطقة، اتضح خلال مونديال قطر لكرة القدم أن التطبيع مجرد ختم ممهور على ذمة الدول التي شاركت فيه، وأنه على المستوى الشعبي ما من شيء تغير على أرض الواقع، وإلى وقت قريب راهنت الدول التي طبّعت علاقاتها مع “إسرائيل” على جعل الأمر ينتقل من الهرم إلى المستويات الشعبية، لكن اتضح في أول محك أن المخطط يصعب تحقيقه، وأنه اصطدم بصخرة شعبية ترفض أي انقلاب على ذاكرة الجماهير الرافضة للتطبيع([10]).

لقد تحولت مقاطعة الاحتلال “الإسرائيلي” في كأس العالم قطر 2022، إلى مادة للسخرية العربية الواسعة، حيث تصدرت القضية الفلسطينية المشهد في المونديال، فيما حظي الإعلام العبري بالاستهزاء والمقاطعة خلال تواجده في الشارع القطري([11]).

كما أظهر استطلاع للرأي أجراه معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، تراجعاً ملحوظاً في نسبة مؤيدي اتفاقيات التطبيع مع “إسرائيل” في كل من السعودية والبحرين والإمارات، مقارنة بنهاية العام 2020، وتبين من خلال الاستطلاع أن أكثر من ثُلثي المواطنين في الدول الثلاث أصبحوا ينظرون إلى اتفاقيات التطبيع نظرة سلبية، بعد أقل من عامين من توقيعها، وجاءت نسب الاستطلاع على النحو التالي: في البحرين أيدها 25% وعارضها 71%([12])، وفي الإمارات أيدها 20% وعارضها 76%([13])، وفي السعودية أيدها 19% وعارضها 75%، وكان المعهد الأميركي أجرى استطلاعاً في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2020، حيث أظهر أن 47% من الإماراتيين يؤيدون الاتفاقيات، مقابل 49% يعارضونها، بينما أيدها 45% في البحرين مقابل 51% يعارضونها، وفي السعودية أبدى 41% موقفاً إيجابياً من الاتفاقيات وعارضها 54% آنذاك.

ساهمت الاختلافات في توجهات السياسة الخارجية الأمريكية بين الديمقراطيين والجمهوريين في تراجع نسبي في مسارات التطبيع، نتيجة اختلاف مواقف الديمقراطيين من إيران وبرنامجها النووي، كما ساهم الرفض الشعبي للوجود “الإسرائيلي” في المنطقة خلال مونديال قطر 2022 إلى تراجع حدة مسار التطبيع، وبقائه ضمن إطار الأنظمة السياسية في إطار السلام البارد.

ثالثاً: مآلات التطبيع العربي بعد عودة نتنياهو للسلطة

لا شك أن نتنياهو يسعى لتحقيق إنجازات جديدة على جبهة مسار التطبيع؛ لمواجهة خصومه، حيث يعمل على إعادة إحياء مسار التطبيع مع الدول الخليجية، وخاصة السعودية لتحقيق إنجاز سياسي جديد يثبت وجوده في رئاسة الحكومة، حيث يسعى للاستفادة من علاقاته الإقليمية لدفع مزيد من الدول لمسار التطبيع.

عودة نتنياهو للسلطة مرة أخرى تفتح الباب أمام مجموعة من السيناريوهات لمسار التطبيع، فحالة السيولة التي تشهدها المنطقة، والتحالفات والصراع على الموارد والزعامة الإقليمية تساعد “إسرائيل” في طرح نفسها كحليف إستراتيجي في ظل رغبة الولايات المتحدة في الخروج الناعم من منطقة الشرق الأوسط.

ويمكن استشراف مستقبل مسار التطبيع خلال الفترة المقبلة من خلال السيناريوهات التالية:

  • السيناريو الأول: استنزاف مسار التطبيع

يأمل نتنياهو أن تشكل عودته للحكومة دافعاً لعودة مسار التطبيع للواجهة بقوة، من أجل ذلك كان  ينوي أن تكون أول زيارة خارجية له لمنطقة الخليج، لإعطاء انطباع أن مسار التطبيع عائد بقوة، عبر دخول دول جديدة على هذا المسار.

نتنياهو أكد في مقابلة أجراها معه موقع “واشنطن إكزامينر”، أن التوصل “إلى اتفاق تطبيع رسمي مع السعودية يوسع دائرة السلام لتتجاوز أحلامنا الأكثر جموحاً”. وزعم نتنياهو أن التوصل إلى التطبيع مع السعودية “سينهي الصراع العربي الإسرائيلي”([14]).

كما أكد في مقابلة مع صحيفة “جويش إنسايدر”: “آمل أن نحقق سلاماً رسمياً كاملاً مع السعودية، كما فعلنا مع دول الخليج الأخرى مثل البحرين والإمارات”، معتبراً أن إبرام اتفاقية مع السعودية، سيكون بمثابة “قفزة كبيرة من أجل التوصل إلى سلام شامل بين إسرائيل والعالم العربي” ويسهل في نهاية المطاف التوصل إلى سلام فلسطيني “إسرائيلي”. وقال “أعتزم الاستمرار”، معرباً عن أمله في أن “تشارك القيادة السعودية في هذا الجهد”([15]).

وفي كلمة ألقاها بعيد تكليفه بتشكيل الحكومة القادمة، قال نتنياهو: “هناك اتفاق (داخلي) واسع للتوصل إلى مزيد من اتفاقات السلام مع المزيد من الدول العربية من منطلق القوة والسلام مقابل السلام”، على حد تعبيره. وزعم نتنياهو أن التوصل إلى اتفاقات التطبيع يمثل مقدمة لإنهاء الصراع مع الفلسطينيين([16]).

عودة الدافعية لمسار التطبيع تعني بالنسبة لنتنياهو دخول دول عربية كبيرة على هذا المسار بشكل رسمي، مما يتيح له تحقيق نصر سياسي وشخصي في مواجهة خصومه داخل الحكومة وخارجها، فـ”إسرائيل” تحت حكم الليكود واليمين الديني تسعى لتحسين صورتها في العالم عبر بوابة التطبيع مع العرب، لإرسال رسالة للعالم، أن العرب يتقربون من “إسرائيل” برغم تركيبة حكومته المتطرفة، فعودة مسار التطبيع مرة أخرى تهدف لحماية الحكومة من الانتقادات الدولية، وتحقيق نصر سياسي وشخصي لنتنياهو.

البيئة السياسية للأنظمة العربية الحالية، التي التزمت الصمت أو الحياد تجاه التطبيع مع “إسرائيل”، تُعَدّ بيئة سهلة الاستقطاب والاختراق “الإسرائيلي”، من أجل جرّها إلى مربّع التطبيع في أي لحظة، إذا ما نشطت الدبلوماسية “الإسرائيلية”، أو تعرضت لدور أميركي مؤثّر، قد يشجّع على الانضمام إلى اتفاقيات تطبيع جديدة، نتيجة ضعف النظام الإقليمي العربي ومؤسساته، مع غياب وجود كابح للدول العربية، سينشط السلوك الفردي لتلك الدول، وسيجعل الأرضية خصبة للتغلغل “الإسرائيلي”، عبر جرّها إلى مربّع التطبيع([17]).

لقد نجحت “إسرائيل” في ضرب المقاربة العربية التقليدية القائمة على أسبقية الانسحاب ثم التطبيع، ونظراً لتغير النظام العربي وسيولة التحالفات الإقليمية وتغير قاعدة العداء والصداقة، فإن “إسرائيل” يمكن أن تنجح في إحداث اختراقات أخرى قادمة، وما سيُسهِّل من مهمة “إسرائيل” استمرار الانقسامات الفلسطينية وتجذرها بفعل الرعاة الإقليميين المتنافسين على السلطة، فهناك اعتقاد عند الكثير من الأنظمة العربية بأن الطريق إلى واشنطن تمر من خلال تل أبيب، ما يمنح “إسرائيل” أوراق قوة في العلاقة مع الدول التي تسعى للتطبيع مع “إسرائيل”([18]).

سوف يسعى نتنياهو بكل قوة لإعادة إحياء مسار التطبيع مرة أخرى عبر دخول دول عربية جديدة على خط التطبيع الرسمي، وعدم الاكتفاء بالتعاون الأمني أو التجاري، لكن احتمالات تحقق هذا السيناريو باتت ضعيفة، خاصة بعد التحولات التي شهدتها السياسات الأمريكية في عهد بايدن، وتبني سياسة تدوير الزوايا الحادة من قبل دول إقليمية كثيرة، فلم يعد مطروح على الطاولة تشكيل “ناتو عربي إسرائيلي”، أو إقامة تحالف لمواجهة التمدد الإيراني في ظل تراجع المد الإيراني في التداعيات السلبية للعقوبات الأمريكية، والأزمات الداخلية.

  • السناريو الثاني: تراجع مسار التطبيع

ساهمت التغيرات التي أحدثها خروج ترامب من البيت في تراجع حدة التطبيع العربي “الإسرائيلي”، فقد تبنت إدارة بايدن سياسات مختلفة تجاه إيران وطريقة مواجهة التمدد الإيراني في المنطقة، كما ساهمت سياسة تدوير الزوايا الحادة التي تبنتها بعض دول الخليج وخاصة الإمارات والسعودية في البحث عن توافقات جديدة مع إيران وتركيا بعيداً عن التحالف مع “إسرائيل”.

بعد مرور عام على توقيع اتفاقيات التطبيع بين عدد من الدول العربية و”إسرائيل”، يرى “الإسرائيليون” أنها أنتجت سلسلة من السوابق في العلاقات الثنائية، وعززت العلاقات الاقتصادية والتجارية مع “إسرائيل”، لكن المكاسب التي تحققت على المستوى السياسي والعسكري والاستراتيجي لا ترقَ إلى مستوى التوقعات “الإسرائيلية”([19]). سلوك شعوب الدول التي وقّعت اتفاقيات التطبيع، يعطي دلالة واضحة على أن مسار التطبيع يعيش حالة كبيرة من الرفض الشعبي العربي. وعلامات الفتور والتعثر ومؤشرات الفشل في دول التطبيع أصبحت واضحة. وتعمل تلك الدول على إعادة إعطاء زخم لاتفاقيات التطبيع، عبر إعلان مزيد من الاتفاقيات الفرعية المتنوعة، من أجل إبقاء الحديث عن مسار التطبيع حياً، والقول إنه ماضٍ ويتقدم، وأن هناك دولاً قادمة ستلتحق وتوقع اتفاقيات تطبيع جديدة مع “إسرائيل”([20]).

الكاتب “أودي إيفنتال” من معهد دول الخليج بواشنطن، قال في مقال ترجمه موقع “الخليج الجديد” أنه يبدو أن هناك إدراكاً متزايداً في “إسرائيل” بأنهم لم يغيروا بعد “قواعد اللعبة” على المستوى الاستراتيجي في المنطقة، ولم تخلق الاتفاقات تأثيراً على شكل لعبة “الدومينو” في علاقات “إسرائيل” مع الدول العربية؛ ولم تقترب الانفراجة في العلاقات مع السعودية “جوهرة التاج” بالنسبة لـ “إسرائيل”([21]).

مسار التطبيع الذي هوّلت له “إسرائيل”، ومن خلفها أميركا، بصورة غير مسبوقة في بداياته، تراجع ولم يعد له نفس الدافعية والاهتمام، فعلى الرغم من التهويل والترويج الأميركيَّين “الإسرائيليَّين” لمشروع التطبيع، فإنَّ دولاً عربية ظلّت صامتة، ولم تُبدِ موقفاً واضحاً، وأخرى وقفت حالة الحياد، لكنّ دولاً أخرى، في المشهد ذاته، ثبّتت موقفها بصورة واضحة، مثل سوريا ولبنان والعراق واليمن، عبّرت عن رفضها المطلق لمسارَ التطبيع مع “إسرائيل”، ووصفته بالخيانة الكبيرة للقضية الفلسطينية([22]).

ساهمت مجموعة من العوامل في تراجع دافعية مسار التطبيع، خاصة بعد خروج إدارة ترامب من البيت الأبيض، وبروز معارضة شعبية للوجود “الإسرائيلي” خاصة خلال فعاليات كأس العالم لكرة القدم في الدوحة، أرسل رسالة هامة للأنظمة العربية و”إسرائيل” أن الجماهير العربية على مختلف أطيافها ما زالت رافضة لوجود “إسرائيل” على المستوى الرسمي والشعبي، وأن محاولات دمجها في البيئة الإقليمية عبر اتفاقيات “أبرهام” لم تؤدِّ إلى نتائج إيجابية في سياق قبولها كدولة طبيعية في المنطقة.

  • السيناريو الثالث: المراوحة في المكان

عودة نتنياهو لسدة الحكم مرة أخرى لن تشكل إضافة نوعية يمكن البناء عليها لعودة مسار التطبيع لسابق عهده، نظراً لاختلاف الأوضاع في المنطقة عن ما قبل عامين، خاصة بعد خروج ترامب من البيت الأبيض، وحدوث تحولات مهمة في السياسة الإقليمية والتي أدت إلى إحداث توافقات إقليمية ساهمت في تراجع حدة الصراع في منطقة الخليج.

مسار التطبيع، الذي بدأه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، فقدَ كثيراً من حيويته بعد وصول بايدن إلى سدة الحكم في واشنطن، لكنه لم يغب عن المشهد تماماً. فالتطبيع، في هذه المرحلة، يشهد حالة من التعثر والفتور معاً، وهو مؤشر على بداية فشل مسار التطبيع في تحقيق أهداف ومكاسب جوهرية للأنظمة الخليجية والعربية، التي هرولت وطبّعت مع “إسرائيل”([23]). التطبيع بين “إسرائيل” وأربع دول عربية قبل عامين، هو ظروف إقليمية ودولية، ودخول “إسرائيل” إلى نقاط ضعف تلك الدول، متمثلة بمحاولة تبديد مخاوفها من جار قوي، كما حدث مع الإمارات والبحرين، أو دفع المقابل السياسي بملفات أثقلت كاهلها([24]).

سيناريو المراوحة في المكان بين التجميد والتوسع هو السيناريو الأكثر ترجيحاً في مسار التطبيع خلال العامين القادمين على أقل تقدير، فتركيبة حكومة نتنياهو المتطرفة وسلوكها تجاه الفلسطينيين في ظل تصاعد حدة المواجهة في الضفة الغربية، والتحولات التي حدثت في المنطقة والسياسة الدولية لن تساعد نتنياهو في إحداث اختراق جديد في مسار التطبيع، لكن مشهد التطبيع لن يغيب تماماً عن الساحة السياسية والإعلامية.

خاتمة

يأمل نتنياهو أن تشكل عودته لرئاسة الحكومة “الإسرائيلية” أن تشكل دفعةً جديدة باتجاه إحياء مسار التطبيع مرة أخرى، عبر انضمام السعودية ودول أخرى لهذا المسار، لذلك مهندس هذا المسار في وزارة الخارجية (إيلي كوهين)، لكن هذه الرغبة سوف تتبخر مع مرور الأيام، نظراً لاختلاف السياسات الأمريكية والإقليمية التي ساهمت في البدء بمسار التطبيع ومنحه قوة دفع استطاعت تجاوز القضية الفلسطينية كقضية مركزية في علاقة العرب مع “إسرائيل”.

لا شك أن نتنياهو سوف يسعى بكل قوة لمنح مسار التطبيع قوة دفع إضافية، إلا أن تركيبة حكومته الحالية والظروف الدولية والإقليمية لن تساعده في تحقيق اختراق نوعي في هذا المسار، لذلك فإن سيناريو المراوحة في نفس المكان (تجميد مؤقت) هو السيناريو الأكثر احتمالية للتحقق خلال العامين القادمين، لحين توفر ظروف دولية وأمريكية جديدة (عودة الجمهوريين للبيت الأبيض) قادرة على منح مسار التطبيع دافعية أكبر مما عليه الآن.

([1]) علي، تغريد: لماذا ترغب إسرائيل في التطبيع مع دول الخليج؟ موقع منشور (10 أغسطس 2021) https://bit.ly/3IAtOAa

([2]) مصطفى، مهند، إسرائيل والبيئة الإقليمية التحولات الاستراتيجية والمسألة الفلسطينية ، المركز الفلسطيني لأبحاث السياسيات والدراسات الاستراتيجية مساراتـ، رام الله 2015، ص73.

([3])   Zeynep Coskun ,Israel and the Palestinian issue in light of the troubled regional system after Arab , https://bit.ly/3inNkFx

([4]) علي، تغريد: لماذا ترغب إسرائيل في التطبيع مع دول الخليج؟ موقع منشور (10 أغسطس 2021) https://bit.ly/3IAtOAa

([5]) الشريف، ماهر: اتفاق لم يكن مفاجئاً، لكنه طعنة للفلسطينيين، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت 2020.

([6]) 1Kristian Coates Ulrichsen, “Israel and the Arab Gulf States: Drivers and Directions of Change,” Rice University’s Baker Institute for Policy,(8 September 2016), https://bit.ly/3VRVXWC

([7]) Adam Entous, “Donald Trump’s New World Order,” The New Yorker, June 11, 2018, https://bit.ly/3GoiqVw

([8]) المنشاوي، محمد: التطبيع الخليجي الإسرائيلي.. العلاقات العسكرية مدخلا، الجزيرة نت، (6 يوليو 2022)، https://bit.ly/3QjsQdD

([9]) المنشاوي، محمد: التطبيع الخليجي الإسرائيلي.. العلاقات العسكرية مدخلا، الجزيرة نت، (6 يوليو 2022)، https://bit.ly/3QjsQdD

([10]) إبراهيم، سليمان: فلسطين تنتصر في مونديال قطر وتنسف جهود التطبيع ورفض شعبي للاحتلال وممثليه، جريدة القدس العربي، (3 ديسمبر 2022)، http://bit.ly/3H2FQRB

([11])هكذا حولت الجماهير العربية “إسرائيل” إلى نكتة ومادة للسخرية في قطر، وكالة شهاب نيوز، (3 ديسمبر 2022)، http://bit.ly/3IQBoqv

([12]) David Pollock, Bahrain Polls Shows Sharper Sectarian Split on Iran, Less Hope on Israel Peace, (Jan 14, 2022) The Washington Institute for Near Eastern Studies. https://bit.ly/3VXidyf

([13]) avid Pollock, New UAE Poll: Public Aligned with Foreign Policy Balance, Domestic Conditions, ( Dec 20, 2021), The Washington Institute for Near Eastern Studies. https://bit.ly/3W6zfu0

([14]) النعامي، صالح: نتنياهو: التطبيع مع السعودية هدف حكومتي المقبلة، جريدة العربي الجديد، (17 ديسمبر 2022)، https://bit.ly/3ZiYf3M

([15]) صحيفة إسرائيلية: نتنياهو سيقدم “تنازلا” في سبيل التطبيع مع السعودية، موقع روسيا اليوم، ( 10 أغسطس 2022)، https://ar.rt.com/ufxq

([16]) نتنياهو يتعهد بمزيد من اتفاقيات التطبيع مع دول عربية، جريدة العربي الجديد ( 13 نوفمبر 2022)، https://bit.ly/3GVNk9h

([17]) الغريب، شرحبيل: التطبيع مع “إسرائيل”.. حصاد باهت ومسارات متعثّرة، موقع قناة الميادين، ( 21 فبراير 2022)، https://bit.ly/3GrvARl

([18]) البراوي، حسن: التطبيع مع إسرائيل بين السلام البارد والسلام الدافئ، مركز الجزيرة للدراسات، ( 10 نوفمبر 2022) http://bit.ly/3WUblmy

([19]) بعد عام على اتفاقيات التطبيع.. “إسرائيل” فشلت في تغيير قواعد اللعبة الاستراتيجية، وكالة صفا للإخبار ( 18 سبتمبر 2021)، https://safa.ps/p/312686

([20]) الغريب، شرحبيل: التطبيع مع “إسرائيل”.. حصاد باهت ومسارات متعثّرة، مرجع سابق.

([21]) بعد عام على اتفاقيات التطبيع.. “إسرائيل” فشلت في تغيير قواعد اللعبة الاستراتيجية، مرجع سابق.

([22]) الغريب، شرحبيل: التطبيع مع “إسرائيل”.. حصاد باهت ومسارات متعثّرة، مرجع سابق.

([23]) المرجع السابق.

([24]) أبو سرية، رجب: التطبيع أم السلام بين السعودية وإسرائيل، جريدة الأيام، ( 20 ديسمبر 2022)، https://bit.ly/3Qudzqg

للحصول على الدراسة بصيغة PDF اضغط هنا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى