دراسات

الانتخابات التركية.. الدلالات والتداعيات

مركز اتجاهات للدراسات والأبحاث

 

مقدمة

جرى عقد الانتخابات التركية الرئاسية والبرلمانية خلال شهر مايو المنصرم، بالتزامن مع حلول المئوية الأولى لتأسيس الجمهورية التركية الحديثة، وقد أفرزت الانتخابات فوزاً كبيراً للرئيس أردوغان ولتحالفه الحزبي، ما يؤشر لاستمرار جهود تركيا في تحقيق مكانتها الإقليمية والدولية ومشروع نهوضها الوطني الذي أسماه الرئيس أردوغان “قرن تركيا”.

ورغم أن الانتخابات تعبِّر عن شأن تركي داخلي، إلا أنها حظيت باهتمام دولي وإقليمي بارزين، حتى إنها طغت على المشهد والاهتمام الدولي على حساب العديد من القضايا الأخرى، الأمر الذي يعكس أهمية تركيا ودورها الإقليمي والدولي، وأن نتائج هذه الانتخابات – التي عكست استقطاباً داخلياً حاداً بين مشروعين – تؤشر في نفس الوقت لمستقبل تركيا وموقعها في شبكة المصالح والتوازنات والصراعات الإقليمية والدولية خلال الفترة القادمة.

تسعى هذه الدراسة لرصد دلالات الانتخابات التركية وأسباب الاهتمام الكبير الذي حظيت به، وتحاول استقراء أبرز التداعيات والانعكاسات التي تحملها على السياسات التركية في الفترة القادمة، سواء على الصعيد الداخلي أو على صعيد السياسات التركية الخارجية وعلاقاتها مع الأطراف المختلفة.

 

دلالات الانتخابات التركية

عبًّرت الانتخابات التركية عن تجربة ديمقراطية ناضجة، تتنافس فيها الأحزاب السياسية لنيل ثقة الناخبين من خلال برامج انتخابية تلامس همومهم وتطلعاتهم، وقد عكست هذه الانتخابات حالة استقطاب داخلي حاد، إضافة إلى تطلعات متباينة من قبل الأطراف المهتمة بالشأن التركي تجاه نتائجها، الأمر الذي عكس أهمية دور تركيا وموقعها في شبكة المصالح والتوازنات والصراعات الإقليمية والدولية.

وفيما يأتي أبرز دلالات الانتخابات التركية داخلياً وخارجياً:

1- صورة تركيا كديمقراطية راسخة تتجاوز مرحلة الانقلابات العسكرية:

لقد عززت الانتخابات صورة تركيا كديمقراطية راسخة تنافس الديمقراطيات الغربية العريقة بل تتفوق عليها، وقدَّمت نموذجاً لنظام تعددية سياسية نزيه، خلافاً للاتهامات الغربية الموجَّهة للرئيس أردوغان ولحزب العدالة والتنمية بشأن الدكتاتورية والاستبداد والتضييق على المعارضة، كما مثَّلت انتصاراً للعقلانية السياسية والوعود الانتخابية المتزنة، على حساب الحشد العاطفي والسياسة الشعبوية، التي تخلق انقسامات مجتمعية خطيرة، كان أبرز أمثلتها ما حدث في انتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة.

لقد أكدت هذه الانتخابات قناعة الشعب التركي وأحزابه المختلفة، بطي صفحة الانقلابات العسكرية وتدخُّل الجيش في السياسة، وهو الأمر الذي كان محوراً لأحد أبرز وعود الرئيس أردوغان المتمثلة بصياغة “دستور جديد حر ومدني يتحرر من الدستور الذي كان ثمرة انقلاب عسكري”.

ويظهر ذلك جلياً من خلال قراءة تجربة الانقلاب العسكري الفاشل في 15 تموز/ يوليو عام 2016، حيث استجاب الشعب التركي لنداء الرئيس أردوغان بالتدخل لإيقاف الانقلاب، وكان لذلك دور حاسم في وأده، فضلاً عن أن جميع الأحزاب السياسية التركية – بما فيها المعارضة – رفضت الانقلاب على الرغم من موقفها من أردوغان.

أما العملية الانتخابية نفسها، فقد كانت محط إشادة وإعجاب بالغين على المستوى الدولي، حيث تميزت بالنزاهة والشفافية وسجلت مستوى مشاركة من بين الأعلى عالمياً، بلغت في الجولتين الأولى والثانية 84% – 88%.

نال تحالف الجمهور الحاكم خلال الانتخابات البرلمانية الأغلبية بإجمالي 323 مقعد برلماني من أصل 600 مقعد، مقابل 169 مقعد نالها تحالف الأمة المعارض، وفما يتعلق بالانتخابات الرئاسية فقد فاز الرئيس أردوغان بحصوله في الجولة الثانية على 52.18% من الأصوات، في المقابل حصل منافسه كمال كليجدار أوغلو على 47.82%..

شهدت الانتخابات استقطاباً سياسياً حاداً، تسلح فيه الحزب الحاكم بإنجازات كبيرة على صعيد التنمية الداخلية وعلى صعيد تحقيق مكانة تركيا خارجياً، في مقابل تسلح المعارضة بأزمات البلاد المختلفة (الأزمة الاقتصادية، قضية اللاجئين السوريين، توتر العلاقات مع الغرب، تداعيات الزلزال المدمر في شباط/ فبراير الماضي).

لقد احتاج الرئيس أردوغان – على الرغم من إنجازاته الكبيرة – لخوض جولة إعادة في الانتخابات الرئاسية، وفاز بأغلبية طفيفة، الأمر الذي يشير إلى أن الشعب التركي تجاوز معضلة صناعة الطاغية المستبد المتلازمة مع بروز زعامة كاريزمية تضفي قدراً كبيراً من التغيير في الواقع السياسي والتنموي للبلاد، كما أظهرت الانتخابات رغبة وازنة لدى الشارع التركي في التغيير، خاصة في أوساط فئة الشباب التي لم تعاني من الانقلابات والأزمات الاجتماعية، التي عاشتها تركيا بفعل تدخل الجيش في السياسة أو بفعل التدخلات الخارجية.

2- مكانة تركيا المتقدمة على الصعيد الإسلامي والإقليمي والدولي:

حظيت الانتخابات التركية – على الرغم من كونها شأناً تركياً داخلياً – باهتمام خارجي بارز، وطغت على المشهد على حساب العديد من القضايا الأخرى، الأمر الذي يعكس مكانة تركيا وأهمية دورها في نظر الشعوب الإسلامية والعربية وعلى الصعيدين الإقليمي والدولي، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي.

ويرجع هذا الاهتمام الخارجي الكبير بالانتخابات التركية، لما تمثله من تأثير على مستقبل تركيا وموقعها في شبكة المصالح والتوازنات والصراعات الإقليمية والدولية خلال الفترة القادمة، حيث شكلت السياسة الخارجية عاملاً مهماً في توجهات الناخبين، نظراً لارتباطها بالعوامل الأكثر تأثيراً في الشأن الداخلي (الاقتصاد، قضية اللاجئين)، حيث هاجمت المعارضة خلال دعايتها الانتخابية السياسية الخارجية لأردوغان، وتوعدت في حال فوزها بإجراء تغييرات جذرية في هذه السياسة.

لقد مثلت الانتخابات التركية صراعاً بين مشروعين، الأول – ويمثله الرئيس أردوغان – يؤمن بضرورة تصالح تركيا مع تاريخها الحضاري وجوارها الإقليمي، دون التخلي عن علاقات متوازنة مع الغرب، في مقابل المشروع الثاني الذي يستند إلى العلمانية التي أرساها مصطفى كمال أتاتورك وجعل تركيا تتجه غرباً لدرجة الارتهان.

أما على الصعيد العربي والإسلامي، فقد عكس الاهتمام الكبير لدى الشعوب العربية والإسلامية بالانتخابات التركية، وتفضيلها لفوز الرئيس أردوغان وأملها باستمرار سياساته الداخلية والخارجية، موقع الزعامة التي حققها الرئيس أردوغان لنفسه ولبلاده في وجدان هذه الشعوب، التي باتت تغبط الشعب التركي على رئيس تمكَّن من تحقيق إنجازات كبيرة على صعيد التنمية الداخلية وتحقيق مكانة بلاده إقليمياً ودولياً، وفي نفس الوقت يحتكم لشعبه ويخطب وده للاستمرار في منصب الرئاسة، في مقابل الشعور باليأس والإحباط الذي يجتاح الشارع العربي حيال نزاهة الانتخابات والإصلاح السياسي في البلاد العربية، فضلاً عن التنمية وتحقيق مصالح ومكانة الدول العربية إقليمياً وعالمياً.

3- قوة الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية:

كانت الانتخابات الأخيرة هي الاستحقاق التصويتي السادس عشر الذي يفوز به الرئيس أردوغان وحزبه العدالة والتنمية في الفترة ما بين عامي 2002-2023، سواء كانت تلك الاستحقاقات التصويتية على شكل استفتاءات دستورية أو انتخابات محلية أو برلمانية أو رئاسية.

لقد استند الرئيس أردوغان وحزب العدالة التنمية على عدة عوامل مكنته من الاستمرار في قيادة البلاد، أبرزها:

  • وجود تيار واسع قائم بذاته وكامن في نسيج المجتمع التركي وطبيعته، وهو التيار الإسلامي والمحافظ، والذي شكَّل قاعدة انتخابية صلبة تمثل نحو ثلث الناخبين عامة.
  • قدرة الرئيس أردوغان على التكيّف مع مطالب جمهور الناخبين، الطامحين للتغيير سواء على مستوى الطموحات القومية والإصلاحات السياسية والديمقراطية، أو على مستوى تغيير الواقع الاقتصادي وتحسين الخدمات العامة.
  • سجل حافل من الإنجازات والوعود السياسية الصادقة، ومستوى عالي من الشفافية على مستوى الممارسة في إدارة شؤون الحكم، الأمر الذي أوجد حالة ثقة مجتمعية في الخطاب السياسي لأردوغان، مكَّنته من كسر العديد من محظورات السياسة التركية ومفاصل الدولة العميقة.
  • شخصية أردوغان الكاريزمية وأسلوبه الخطابي الحماسي، حققت له مكانة استثنائية في السياسة التركية، لم يحظَ أحدٌ بها في عهد الجمهورية إلا مؤسسها كمال أتاتورك.

لقد أثبت الرئيس أردوغان الذي يقود البلاد منذ أكثر من عقدين، أنه لا يزال أقوى مما تعتقد المعارضة والدول الغربية، فقد واجه خلال الانتخابات ثلاثة تحديات قادرة على تقويض فرص أكثر الزعامات السياسية نفوذاً، تمثلت في معارضة موحدة بشكل لم تشهده السياسة التركية من قبل، وتضخم مرتفع، وتداعيات زلزال مدمر، فلا يزال نصف الشعب التركي تقريباً ينظرون إلى أردوغان على أنه الرئيس الوحيد الذي يستطيع قيادة تركيا في ظل الصعوبات الاقتصادية التي تعيشها والتحديات الكبيرة التي تواجهها في السياسة الخارجية.

ومع بلوغ الرئيس أردوغان المرحلة الأخيرة في مسيرته السياسية، ترامناً مع الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية، فقد أعلن عن رؤيته للمرحلة المقبلة “قرن تركيا”، لتكون تتويجاً لمسيرته السياسية عبر إنجازات على كافة الصعد:

  • على صعيد المشاريع القومية الكبرى المتعلقة بالتنمية عبر: مشاريع الغاز، محطات الطاقة النووية، السيارة التركية الخالصة، الطائرة المقاتلة، قناة إسطنبول، الإصلاح الاقتصادي.
  • على صعيد الإصلاح السياسي عبر وضع أسس جمهورية جديدة تستند إلى دستور مدني جديد متحرر من ضوابط الكمالية الصارمة ودور الجيش في السياسة.
  • على صعيد استكمال الاستقلال الاستراتيجي للبلاد في مجالات السياسة الخارجية والدفاع والاقتصاد والطاقة.

4- نظرة الغرب لتركيا والرئيس أردوغان:

لم تُخفِ الدول الغربية امتعاضها من سياسة الرئيس أردوغان ومراهنتها على مرشح المعارضة، الذي وعد في حال فوزه بإعادة ربط تركيا بالغرب وبالبنك الدولي كما كانت قبل الرئيس أردوغان، على الرغم من ذلك حاولت الدول الغربية الظهور بشكل محايد حفاظاً على فرص مرشح المعارضة.

وبالنسبة للإعلام الغربي، فقد خرجت العديد من الصحف الغربية الكبرى عن سياق التغطية المهنية والمحايدة في التعاطي مع الانتخابات التركية، وهاجمت الرئيس أردوغان وحرّضت عليه، الأمر الذي عزز القناعة لدى كتلة واسعة من الناخبين بأن كليجدار أوغلو يمثل مشروعاً غربياً لإضعاف تركيا وإعادة إخضاعها للغرب.

وقد عبَّر الرئيس أردوغان صراحة عن امتعاضه من الموقف الغربي تجاه الانتخابات واستغلال المعارضة لهذا الموقف، حيث صرَّح عقب انتهاء جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية أن “حملة إعلامية غربية استهدفته شخصياً”.

لكن ما إن أُعلنت نتائج الانتخابات حتى سارع العديد من رؤساء الدول الغربية لتهنئة الرئيس أردوغان والشعب التركي بالإنجاز الانتخابي الكبير، وقد كان أبرزهم رؤساء دول كانوا شديدي الانتقاد لأردوغان مثل الرئيس الأمريكي جو بايدن والرئيس الفرنسي مانويل ماكرون.

كما تحولت الصحف الغربية من حالة توجيه الاتهامات والتحريض ضد الرئيس أردوغان، إلى محاولة تفسير نجاحه في السباق الانتخابي على الرغم من الأزمات التي تواجهه، إلى جانب انتقادها للمعارضة التي اتهمتها بتضييع الفرصة عبر تشتتها وضعف أدائها.

 

تداعيات الانتخابات التركية

حظيت الانتخابات التركية بقدر كبير من الاهتمام على الصعيد الداخلي والخارجي، الأمر الذي يعكس حجم التداعيات المرتقبة لتلك الانتخابات على المستويين الداخلي والخارجي.

لقد أبرزت نتائج الانتخابات تفضيل الأتراك للتوجهات المحافظة، وبالتالي سيكون على الرئيس أردوغان وحكومته اتباع سياسات تتوافق مع تطلعات الشعب التركي، وتضمن إنجاز الوعود الانتخابية التي صوَّت الأتراك بموجبها له ولتحالفه الحزبي، وعليه من المتوقع أن يكون لنتائج الانتخابات التركية الانعكاسات والتداعيات الآتية:

أولاً – على الصعيد التركي الداخلي:

1. برنامج الحكومة الجديدة:

سيعمل الرئيس أردوغان لتعزيز سلسلة الإنجازات والمشاريع التي بدأها خلال الفترة الماضية سواء في مجال الدفاع أو الطاقة أو النقل أو الاقتصاد، وذلك انطلاقاً من رؤيته “قرن تركيا” التي أعلنها خلال السباق الانتخابي، وعليه سيكون على رأس أولويات حكومته الجديدة – على الصعيد الداخلي – القضايا الآتية:

  • معالجة الأزمات الاقتصادية والتضخم والإصلاح المالي، ولعل ذلك يفسر ضم عدد من الرموز الاقتصادية والمالية التي يُشهد لها بالكفاءة إلى الحكومة الجديدة.
  • معالجة آثار الزلزال الذي ضرب 11 ولاية، وإعادة بناء المساكن والمنشآت الاقتصادية والخدمية خلال عام، حسب ما وعد به الرئيس أردوغان.
  • معالجة الموقف الشعبي من قضية اللاجئين التي كانت محور سجال ساخن في الانتخابات، وذلك من خلال مشاريع “العودة الطوعية” للاجئين السوريين، والتي ستنعكس على سياسة تركيا الخارجية تجاه النظام السوري.

2. التأسيس لجمهورية جديدة:

نجح أردوغان خلال الفترة الماضية في إنجاز تحول هادئ في طبيعة النظام السياسي التركي، كان أبرز ملامحه تحجيم دور الجيش في الحياة السياسية، وتعديل الدستور والانتقال للنظام الرئاسي، ويمكن اعتبار فوز أردوغان بولاية رئاسية جديدة مع أغلبية برلمانية مريحة، فرصة لاستكمال مشروعه في التأسيس لجمهورية جديدة، تخرج من عباءة الأتاتوركية التي ارتدتها تركيا مطلع القرن العشرين، باتجاه تصالح تركيا مع تاريخها وإرثها الثقافي.

وفي هذا السياق يمكن قراءة إعلان الرئيس أردوغان خلال خطاب التنصيب عن انطلاق بناء “قرن تركيا” وربطه بالإصلاح السياسي، حيث قال “سنعزز ديمقراطيتنا بدستور جديد حر ومدني وشامل، ونتحرر من الدستور الحالي الذي كان ثمرة انقلاب عسكري”.

وعليه فإن المرحلة القادمة ستشهد تعزيز مساعي أردوغان لإجراء تعديلات دستورية تحفظ الديمقراطية التركية وتحيّد وصاية الجيش بالكلية وتحقق التوازن بين مؤسسات الدولة.

3. الانتخابات المحلية التركية عام 2024:

ستكون تركيا على موعد مع الانتخابات المحلية المقررة في آذار/ مارس من العام 2024، التي ستشكل فرصة للمعارضة للتعافي من خسائرها في الانتخابات البرلمانية والرئاسية، في المقابل ستشكل تلك الانتخابات تحدياً لحزب العدالة والتنمية من أجل استعادة بلديتي أنقرة وإسطنبول اللتان فقدهما الحزب في الانتخابات المحلية عام 2019.

وعلى الرغم من النتائج الإيجابية التي حققها حزب العدالة والتنمية في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، إلا أن تلك الانتخابات عكست طبيعة التحديات التي تواجه الحزب في مركز الثقل السياسي في أنقرة وإسطنبول، بسبب قضية عودة اللاجئين السوريين، والتي أصبحت أحد أبرز القضايا على الصعيد الاجتماعي، إضافة إلى المحافظات الشرقية ذات الأغلبية الكردية، حيث تصدرت المعارضة النتائج في هذه المناطق.

يولي الرئيس أردوغان وحزبه أهميةً كبيرةً لاستعادة بلديتي أنقرة وإسطنبول، حيث وجه أردوغان عقب فوزه في الانتخابات نداءً لجماهير حزبه لـ “استكمال المسيرة واستعادة رئاسة بلديتي إسطنبول وأنقرة في الانتخابات البلدية المقررة في آذار/ مارس 2024”.

وفي هذا السياق تبرز أهمية المؤتمر العام لحزب العدالة والتنمية المزمع عقده نهاية الصيف القادم وقبل الانتخابات المحلية، حيث سيفرز المؤتمر قيادات حزبية جديدة تتصدر المشهد خلال الانتخابات المحلية، وفي نفس السياق سيبذل الحزب والحكومة والرئيس أردوغان جهوداً كبيرة لتنفيذ مشاريع العودة الطوعية للاجئين السوريين ومعالجة آثار الزلزال وتحسين الوضع الاقتصادي تحضيراً للانتخابات المحلية.

4. تصدير قيادة جديدة لحزب العدالة والتنمية:

بفوز الرئيس أردوغان بولايته الرئاسية الثالثة، فإن مشواره السياسي بلغ ذروته، وستكون السنوات الخمس القادمة هي سنواته الأخيرة في الحكم بموجب الدستور، وسيكون عليه وعلى حزبه تصدير قيادات جديدة والعمل على إقناع الشارع التركي بالتصويت لها في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية القادمة عام 2028 عندما يكون الرئيس أردوغان غائباً عن قوائم المرشحين فيها.

ستكون مهمة الحزب ومهمة هذه القيادات صعبة، في ظل الزعامة والكاريزما التي تمتع بها أردوغان خلال فترة حكمه، والتي أقنعت الشعب التركي بالوقوف إلى جانبه والتصويت له في ظل صعوبات كثيرة تواجهه، حيث ستكون هذه القيادات مطالبة بأن تقدم نموذجاً ليس بأقل من أردوغان لكسب تأييد الشارع، وإلا ستتراجع فرص حزب العدالة والتنمية في الانتخابات القادمة.

وفي هذا السياق تبرز أهمية المؤتمر العام القادم لحزب العدالة والتنمية المزمع عقده نهاية الصيف القادم، والذي سيؤشر إلى “وريث” أردوغان في قيادة الحزب، وبالتالي سيكون له دور مهم في قيادة تركيا مستقبلاً.

 

ثانياً – على صعيد السياسات التركية الخارجية وعلاقاتها مع الأطراف المختلفة:

تبنت تركيا خلال فترة حكم أردوغان سياسة مستقلة عبَّرت عن إرادة وطنية خالصة، بعيداً عن القيود التي اتبعتها تركيا في الفترات السابقة، فانتهجت مواقف خارجية حاسمة في مواجهة الضغوط الغربية، إضافة للمضي قدماً في مشاريع الصناعات الدفاعية المستقلة.

لقد كان لذلك أثر كبير في رفع مكانة تركيا إقليماً ودولياً، كما مثَّل فخراً وطنياً لدى الشعب التركي، لكنه في المقابل أثار موجات من التوتر في علاقات تركيا الخارجية خاصة مع الغرب وجيرانها الإقليميين.

ومع فوز الرئيس أردوغان بفترة رئاسية جديدة، فمن المرجح أن تستمر سياسات تركيا الخارجية في نفس السياقات السابقة ودون تغيير جذري، وأن تستكمل تركيا توجهاتها السابقة في إدارة علاقاتها الدولية والإقليمية..

وعليه ستحمل ولاية أردوغان الجديدة الانعكاسات والتداعيات الآتية:

1. علاقة تركيا مع الغرب:

فضلت الدول الغربية انتهاء حقبة الرئيس أردوغان، وصعود منافسه الذي وعد بتوجيه تركيا نحو الغرب، لكن الدول الغربية ستكون مضطرة للتعامل مع الرئيس أردوغان، لأهمية دور تركيا في العديد من الملفات.

ومع استمرار مشروع الصعود التركي، ستستمر سياسة تركيا في إرساء نهجٍ يوازن بين عضويةٍ فاعلةٍ في حلف الناتو وبين استقلالها عن النفوذ الغربي، وعليه ستسير العلاقات بين تركيا وبين الغرب في طريق دبلوماسي مشدود، وستشهد العلاقات بينهما موجات من التوتر، مع ميل الطرفين لاحتواء هذه التوترات، نظراً للمصالح المشتركة.

وعليه سيستمر الهدوء في العلاقات الأوروبية التركية على المدى القصير، حيث ستبرز أهمية إيفاء الاتحاد الأوروبي بتقديم الدعم المالي (7 مليار دولار) الذي وعد به تركيا للتعافي من آثار الزلزال، ولن تشهد المحادثات الأوروبية التركية حول الانضمام للاتحاد الأوروبي تطوراً جذرياً، بينما ستستمر الشراكة الأوروبية التركية في معالجة ملف الهجرة، وستدير تركيا ملف عضوية السويد في حلف الناتو بما يمنحها المزيد من المكاسب والحصول على المزيد من التنازلات.

في المقابل ستتأثر علاقات تركيا مع الغرب سلباً في حال تصاعد التوتر التركي اليوناني، كما ستتأثر سلباً بتطور العلاقات التركية الروسية وصفقات السلاح الروسي لتركيا، واستمرار تعثر صفقة طائرات “إف-35” الأميركية.

2. العلاقات التركية الروسية ودور تركيا في الأزمة الأوكرانية:

حافظت تركيا على علاقات جيدة مع روسيا ما أثار حفيظة الغرب، الذي طالب تركيا باتخاذ موقف أكثر ميلاً لتوجهات الناتو المناهضة لروسيا، خاصة بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، التي انتهج الرئيس أردوغان سياسةً متوازنةً تجاه طرفيها، اللذين قدَّما التهنئة للرئيس أردوغان بالفوز في الانتخابات الرئاسية، ففي الوقت الذي هنأه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالنتيجة “المنطقية”، تمنى الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي “تطوير العلاقات بين أنقرة وكييف للحفاظ على أمان أوروبا”.

لقد أسهمت الحرب الروسية الأوكرانية في تعزيز مكانة تركيا الدولية، فكان لتركيا الدور الأساسي في التوصل لاتفاق تصدير الحبوب بين روسيا وأكرانيا، الذي جنَّب العالم خطر تفاقم الأزمة الغذائية جراء الحرب.

ومن المتوقع أن تستمر سياسة أردوغان المتوازنة في الحرب الروسية- الأوكرانية، جنباً إلى جنب مع استمرار جهود التعاون التركي الروسي في مجالات عدة (الأزمة السورية، التعاون الاقتصادي، صفقات السلاح الروسي لتركيا)، الأمر الذي سيمكِّن تركيا من تحقيق مكاسب حقيقية على صعيد بروز دورها الدبلوماسي وتعزيز موقعها كممر للطاقة فضلاً عن إبراز قدراتها العسكرية.

3. علاقات تركيا بالدول العربية:

انتهجت تركيا سياسة تصفير المشاكل مع جيرانها العرب منذ وصول الرئيس أردوغان للحكم قبل عشرين عاماً، لكن في ظل موقف أردوغان الداعم للربيع العربي، توترت علاقات تركيا بدول عربية محورية (مصر وسوريا والسعودية والإمارات).

لقد تبنت تركيا خلال العامين الماضيين مقاربة ًجديدةً، تهدف إلى تحسين علاقاتها مع الدول العربية، من أجل تخفيف الضغط الخارجي على تركيا (معالجة قضية اللاجئين السوريين وتغليب الجانب الاقتصادي)، وفي هذا السياق جاءت إعادة العلاقات مع كل من السعودية والإمارات وفتح قنوات الحوار مع كل من مصر وسوريا.

ومن المتوقع أن تنعكس ولاية الرئيس أردوغان الجديدة على العلاقة مع الدول العربية على النحو الآتي:

أ – استكمال المصالحة التركية المصرية:

بدأ مشوار المصالحة التركية المصرية منذ حوالي العامين، وكان أبرز ملامحها لقاء الرئيسين السيسي وأردوغان خلال مونديال قطر 2022، إضافة إلى الزيارات المتبادلة على مستوى وزراء الخارجية مؤخراً. وبعد ظهور نتائج الانتخابات التركية، سارع الرئيس المصري إلى تهنئة الرئيس أردوغان بالفوز عبر اتصال هاتفي، حيث اتفقا على رفع التمثيل الدبلوماسي وإعادة تبادل السفراء.

ستشهد العلاقة التركية المصرية تطوراً كبيراً في المرحلة القادمة، وسينعكس ذلك إيجاباً على الوضع الإقليمي وعلى مصالح البلدين في القضايا ذات الاهتمام المشترك، ومن أبرزها قضايا الطاقة في شرق المتوسط والصراع التركي اليوناني، الأزمة الليبية، الأزمة السورية.

ب – العلاقات التركية السورية وقضية اللاجئين السوريين:

احتاج الرئيس أردوغان لبدء حوار مع النظام السوري قبل الانتخابات، للاستفادة منه في معالجة موقف الناخب التركي تجاه قضية اللاجئين السوريين، ولمواجهة الصراع الانتخابي مع المعارضة التي ركزت على هذه القضية البارزة، ناهيك عن وجود حاجات أمنية لتركيا دفعتها إلى فتح قنوات حوار مع النظام السوري.

وبعد تخلص الرئيس أردوغان من الضغط الانتخابي، فإنه سيكون أقل استعجالاً حيال تسوية العلاقة مع النظام السوري، لكن ستبقى الرغبة التركية قائمة في التوصل إلى تفاهمات مع النظام تُلبّي مصالحها الأمنية ومساعيها لإعادة اللاجئين السوريين وتحقيق تقدم في التسوية السياسية السورية، لكنّها ستُدير سياستها السورية الجديدة من منطلق قوة.

لقد وعد الرئيس أردوغان خلال حملته الانتخابية بالعمل على تحقيق العودة الآمنة للاجئين السوريين، وأعلن عن مشاريع إسكان كبيرة تقوم بتنفيذها تركيا بتمويل قطري لهذا الغرض، وأنها حققت فعلياً عودة آمنة لحوالي نصف مليون لاجئ سوري، ومن المتوقع أن تتعزز هذه الجهود خلال ولاية الرئيس أردوغان الجديدة، وسينتج عنها عودة أعداد أكبر من اللاجئين السوريين، وستبرز العديد من المواقف التي تمهد لذلك مثل معالجة العلاقة مع النظام السوري على مسار التطبيع وتوفير واقع أمني مستقر في الشمال السوري.

ج – العلاقات التركية الخليجية:

بالنسبة للسعودية والإمارات، شهدت الثلاثة أعوام الماضية تطبيع علاقات تركيا معهما، ومن المتوقع أن تتعزز هذه العلاقات خلال ولاية الرئيس أردوغان الثالثة على الصعيدين الاقتصادي والعسكري، خاصة في ظل توجهات مختلف دول المنطقة نحو تسوية النزاعات الإقليمية وتحقيق الاستقرار الإقليمي، والتي كان من أبرز ملامحها المصالحة السعودية الإيرانية والتركية المصرية، وعودة النظام السوري للجامعة العربية.

أما بالنسبة لقطر، فقد كان الشيخ تميم بن حمد أول مهنئي الرئيس أردوغان على فوزه بالانتخابات الرئاسية، الأمر الذي يعكس طبيعة العلاقة بين الزعيمين والبلدين، والتي من المتوقع أن تزداد صلابة وقوة خلال الولاية الرئاسية الجديدة للرئيس أردوغان.

د – علاقات تركيا بدول شمال إفريقيا:

شهدت الفترة الماضية تطور العلاقات بين تركيا ودول شمال إفريقيا (ليبيا، تونس، الجزائر، المغرب)، ومن المتوقع أن يستمر هذا التوجه لخدمة المصالح المشتركة (مشاريع الطاقة، الأمن الإقليمي، التعاون الاقتصادي).

هـ – موقف تركيا من القضية الفلسطينية:

ستستمر سياسات تركيا تجاه القضية الفلسطينية على حالها، حيث ستحافظ على نفس مستويات الاهتمام والدعم السياسي المقدم لها، وستحافظ تركيا على علاقات جيدة مع كل من السلطة الفلسطينية وحركة حماس، ومن المتوقع ألا يتأثر الوجود الفلسطيني في تركيا بالمشاريع الخاصة بعودة اللاجئين السوريين.

4. علاقة تركيا مع “إسرائيل”:

سعى الرئيس أردوغان خلال الفترة السابقة لتهدئة العلاقة مع “إسرائيل”، حيث برزت العديد من نشاطاته الدبلوماسية تجاهها (اتصاله برئيس الوزراء بينت في حينه، لقاؤه برئيس الوزراء لبيد، اتصاله بنتنياهو لتهنئته بانتخابه رئيساً للحكومة، استقباله للرئيس ووزير الخارجية الإسرائيليين)، وفي ظل مساعي الرئيس أردوغان لتحسين الوضع الاقتصادي، فإنه سيتجه نحو تحسين العلاقة مع “إسرائيل”، خاصة وأن العلاقة معها لم تدخل على خط السجال الانتخابي كما كانت العلاقة مع الغرب.

في المقابل فإنه في حال قيام “إسرائيل” بشن عدوان واسع في قطاع غزة، أو نشوب حرب مع لبنان، فمن المتوقع أن يُلقي ذلك بظلالٍ سلبيةٍ على العلاقات التركية الإسرائيلية.

 

 

للحصول على الدراسة بصيغة PDF اضغط هنا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى