آراء

الاستيطان الصهيوني وتأجيل التفكك والانقسام والزوال

بقلم أ. حمزة البشتاوي

 

نقدم في مركز اتجاهات للدراسات والأبحاث ضمن نافذة “آراء” هذه الورقة للكاتب الأستاذ حمزة البشتاوي، والتي خص بها المركز.

 

إن حالة التفكك والانقسام الداخلي تدفع الحكومة “الإسرائيلية” لإرضاء الأحزاب اليمينية المتطرفة بتسريع عمليات الاستيطان وشرعنة البؤر الاستيطانية في الضفة الغربية، استناداً إلى الفكر الصهيوني وأسباب اقتصادية جيو سياسية، وللتغطية على حالة الانقسام والتفكك ورفع وتيرة أيديولوجيا الاستيطان بصناعة روابط بين المجتمع الصهيوني ومنع انهياره، وسط خلافات واختلافات دينية وسياسية واجتماعية.

وفي سبيل التخفيف من حدة الانقسام، يُتوقع أن تلجأ الحكومة “الإسرائيلية” إلى تحريك الذرائع التاريخية والدينية لعمليات الاستيطان في الضفة الغربية، وتحريك البعد الديني باعتباره من أبرز معالم السياسية “الإسرائيلية” إضافة للبعد الأمني والسياسي والاقتصادي، ولذلك يمكن لحكومة نتنياهو أن تعتبر ورقة الاستيطان وسيلة للحفاظ على الائتلاف الحكومي، وتساهم بمنع حدوث التفكك والانقسام وحصول الانهيار والزوال الذي أصبح يتحدث عنه الكثيرون، بعيداً عن الأساطير والخرافات التي تروج لها الحركة الصهيونية وأيديولوجيتها العنصرية، ونزعتها التوسعية التي أصبحت تقترب في الأزمة الراهنة من الانفجار الداخلي، والذي يشكل البداية الفعلية لتفكك المشروع الصهيوني.

وقد جرى مؤخراً التحذير من حدوث انقسام في الجيش الذي يعتبر رمز الإجماع الصهيوني منذ النكبة عام 1948، حيث اعتبر الجيش المؤسسة الحاضنة لصهر الخلافات والاختلافات داخل المجتمع الصهيوني، ولكن في الوقت الراهن تحدث متغيرات وتحولات أثرت على الجيش والمجتمع الصهيوني، بفعل إنجازات وتطور قدرات المقاومة، وبفعل تحولات داخلية ومنها التحول داخل الكيان نحو الخصخصة والسوق الحر مما جعل الإسرائيليون يتوجهون نحو وظائف أقل خطورة، أي بعيداً عن الوحدات القتالية في الجيش إلى تلك التي توفر الراحة والمستقبل في الشركات العالمية مثل الاستخبارات والسايبر وغيرها، وفي ظل رفض جنود وضباط الاحتياط استدعاءهم إلى الخدمة العسكرية، وتوقيع عدد من العسكريين والضباط من مختلف الوحدات مذكرات احتجاج، وإعلان العديد من طياري سلاح الجو مقاطعة التدريبات ورفض الخدمة، وقد وصف زعيم المعارضة الحالية يائير لبيد ما يجري بأنه: “أكبر أزمة في تاريخ البلاد”.

وعلى الرغم من هذه الأزمة سيحاول عدد من قادة حكومة الاحتلال والمستوطنين التوجه نحو مزيد من عمليات الاستيطان في الضفة العربية، باعتباره فرصةً للخروج من حالة التفكك والانقسام وخطر الزوال، ويعطي فرصة للقادة الجدد في الكيان كي يلعبوا دوراً في المشروع الاستعماري الاستيطاني الذي فاتهم عام 1948، وكي يلعبوا دور طلائع الاستيطان الجدد الذين يسعون لاستكمال المشروع الصهيوني المبتور.

يُتوقع أن تقوم أحزاب أقصى اليمين إذاً بالعودة لتفعيل الاستيطان بكل أشكاله وأدواته، والعمل على التهويد وترسيخ ما يسمى التفوق اليهودي على أرض فلسطين من النهر إلى البحر، وسحق الفلسطينيين باعتباره هو الحل لإعادة اللحمة ومواجهة الخطر الوجودي المتمثل بالانقسام المتصاعد في المجتمع الصهيوني، وهذا ما نراه في الاستراتيجية “الإسرائيلية” تجاه الضفة الغربية وقطاع غزة.

وتنطلق الاستراتيجية “الإسرائيلية” في جوهرها من تكريس الفصل بين القطاع والضفة، ليس من الناحية السياسية فحسب بل بالأساس بتجزئة القضية الفلسطينية إلى قضيتين وفق مخططات التحالف الديني والقومي الصهيوني اليميني المتطرف في الحكومة الحالية، وذلك بالفصل بين قضية قطاع غزة وقضية الضفة الغربية، وفرض حقائق استيطانية على الأرض، إلى جانب مشروع الترانسفير الذي يدخل في إطار الضم الصهيوني التوسعي، مع إبقاء السلطتين في الضفة وغزة ضعيفتين، ومنح الفلسطينيين بعض التسهيلات الاقتصادية المتمثلة أساساً في زيادة عدد تصاريح العمل في الضفة وقطاع غزة.

وتجدر الإشارة أن الإطار العام للاستراتيجية “الإسرائيلية” في قطاع غزة هو الحفاظ على حالة الفصل السياسي والجغرافي مع الضفة الغربية، مع محاولات التهدئة، والتربص لقوى المقاومة في قطاع غزة واستمرار حصاره مع بعض التسهيلات الاقتصادية وزيادة تصاريح العمال، والأمر ليس سيان مع الضفة الغربية، حيث تستمر “إسرائيل” بالاستيطان والتغيير بشكل يومي، وهو عمل يدخل ضمن استراتيجية “الضم الزاحف”، أي ضم واقعي بدون ضم قانوني، وتشكل منطقة “ج” في الضفة الغربية الهدف الأساسي لـ “إسرائيل”، وتحديداً لليمين الذي يُجمع تقريباً على فكرة ضمها، بحيث لا تشمل الاستراتيجية “الإسرائيلية” للضفة الغربية تقويض السلطة الفلسطينية ومؤسساتها وأجهزتها بما في ذلك التنسيق الأمني، وذلك لمنع نشوء “دولة ثنائية القومية”.

وفي كل الأحوال، فإن الصراع مع العدو الصهيوني الإمبريالي، صراع مفتوح لن تختزله لحظات انكفاء عابرة، تتجسد راهناً في خضوع واستسلام أنظمة الكمبرادور العربية للإمبريالية الأمريكية وحليفها الصهيوني من ناحية، إلى جانب أوضاع الضعف والتفكك والانقسام السائدة على الصعيد الفلسطيني، ذلك إن استمرار الانقسام الكارثي يؤدي إلى تفكيك الهوية وتفكيك المجتمع وتفكيك الوطنية الفلسطينية وتفكيك النظام السياسي، وكل هذه المظاهر تعزز ضعف وعجز وتراجع القوى الوطنية الفلسطينية بمختلف رؤاها وبرامجها طالما أنها لم تستطع إنهاء الانقسام رغم نتائجه الكارثية وعلى الرغم من الممارسات العدوانية العنصرية الأكثر بشاعة من ممارسات النازية، تلك الممارسات التي تنغرس وتنتشر اليوم في أذهان المجتمع الصهيوني وتنتشر بصور غير مسبوقة من التطرف والإرهاب الديني والقومي العلماني، عبر العديد من الرموز الإرهابية السياسية والعسكرية والدينية أو الحاخامية من جهة، وعبر عشرات التنظيمات والحركات الصهيونية الإرهابية.

وحول معطيات الظروف الحالية للانقسام داخل المجتمع الصهيوني يمكن ملاحظة:

  • احتجاجات تعود بقوة للشارع، وستكون المطالبة بإسقاط الحكومة لا أقل من ذلك.
  • إنهاء المفاوضات في بيت رئيس الكيان على باقي الإصلاحات.
  • تعاظم النفور الأمريكي، ما يعني الكثير لـ “الكيان” إستراتيجياً.
  • زيادة في التدهور الاقتصادي.
  • زيادة في رفض الخدمة العسكرية.
  • دور الجيش (البقرة المقدسة) في مسألة الإصلاحات، وخصوصاً بعد أن رأينا ماذا حصل في إقالة وزير الدفاع، ثم إلغائها بفعل مكانة الجيش والأمن، وكيف لم يتخذ أي إجراء ضد الضباط الطيارين وضباط الخدمة.
  • تقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية والتضخم وهبوط الشيكل، وانخفاض التصدير وتعطيل سوق الهايتك، وانخفاض مستوى الاستهلاك، وانخفاض مؤشر الثقة بالأعمال وانخفاض سوق الأسهم مقارنة بالأسواق العالمية؟
  • ازدياد شعبية حزب غانتس وحصصه الانتخابية دون لبيد؟ وماذا يعني ذلك؟ على صعيد الانقسام الداخلي.
  • العجز تجاه القضية الفلسطينية والفلسطينيين في كل الساحات؟ وأمام إيران ومحور المقاومة.
  • آراء 58% من الصهاينة الذين يرون أن حرباً أهلية على الأبواب وممكنة الحدوث، مقابل 31% يرون أن لا مجال لحدوثها.

ويمكن أن نجمل آثار ونتائج الأزمة الحالية، بالتالي:

  • صدع وشرخ عميق يقسم “الكيان” اجتماعياً إلى شقين متصارعين، كلٌ يدعي الحق والحقيقة، وكلٌ يدعي الصهيونية والمصلحة العامة والديموقراطية ويتهم الآخر، وهذه الحالة لها انعكاس مستقبلي على صلابة الجبهة الداخلية من جهة، والانعكاس “سلبي” جداً وقد يؤدي إلى هجرة معاكسة، إضافة إلى الصدع الذي يتحول مع الوقت إلى دافع تخريب وفساد، خصوصاً وأن كل فريق سيسعى بشتى الطرق للوصول إلى الحكم، وعندما يصل يضع كل ثقله لتثبيت نفسه، كما يفعل نتنياهو ومجموعته، وهذه هي بداية الاقتتال الداخلي بشكل ما، والذي لا أحد يستطيع التكهن بنتائجه.
  • تراجع في الديموقراطية وتقليص الحريات بشكل متدرج، وتسييس القضاء، ما يعني زيادة في ترسيخ العنصرية علناً، وبشكل أوسع من ذي قبل، خصوصاً مع تعمق الأزمة، وتضارب المصالح لكل الفئات السياسية الفاعلة في “الكيان”، وهذه لن تكون أزمةً سياسية كما يمكن أن يتصور البعض، بل ستكون أزمة بنيوية تمس أسس بناء “الكيان” وأركان وجوده، فهذا التجمع القائم على “قوانين” تتيح هامشاً من “الحرية” في مجالات كافة للفرد والجماعة معاً، لا يمكنه الاستمرار في الحياة إذا تم المس بهذه الصيغة، كونه تجمع مصطنع ومركب بشكل قسري، وليس له امتداده التاريخي، وتطوره عبر التاريخ وعلى الأرض، وهذا ما يجعل ارتباطه بالأرض والجماعة هشاً، ومن السهل التنازل عنه إذا فقدَ المغريات الدافعة له أن يصبح جزءاً من هذا الكيان.
  • تراجع ما يعرف بحقوق الأقليات أكثر فأكثر ما يعني تعمق الطبقية واتساع الهوة بين طبقات وفئات هذا التجمع الصهيوني، الأمر الذي يوصل إلى فقدان ثقة الجمهور أو العامة بالمشروع كله، ابتداءً من قادته ومنظريه حتى مؤسساته وسياساته، خصوصاً إذا أضفنا مع ذلك الضعف الاقتصادي والتراجع على مستوى المعيشة، فإن الأقليات سوف تبدأ عملية تحرك لتحصيل حقوقها، ناهيك عن الفلسطينيين في الداخل الذين يعاملون كأقلية عدوة لـ “الكيان”، وعملية التضييق الجارية والإهمال، تؤدي إلى حالة تململ، فإذا ما زادت نتيجة الحالة العامة الناتجة عن الأزمة، فإنما سوف توصل حد الانفجار.
  • وتزداد عملية الانحراف والانزياح لليمين المتطرف العنصري الإرهابي، المتمثل بالأحزاب المتدينة، ومثالها: حزب بن غفير وحزب سموتريتش، وهذه الأحزاب يراها الكثير من الصهاينة أكثر خطراً على “الكيان” من الأعداء الخارجيين إذا ما توسعت وتضخم حجمها وتأثيرها في الشارع، لأن هذه الأحزاب عبء اقتصادي وسياسي وأمني على “الكيان”، فهم يتقاضون رواتب من “الكيان” ويجلسون في دروس تعليم التوراة، ودائماً يعطون صورة سيئة عن “الكيان” وعنصريته علناً في تصريحاتهم ثم يرفضون الخدمة العسكرية، وهذه الأزمة الأخيرة في جزء كبير منها سببها هؤلاء.
  • إضافة لتدهور الاقتصاد وتحول المشروع الصهيوني وكيانه إلى مشروع خاسر اقتصادياً وهذا ما يدفع الفرد إلى عدم الثقة ثم المغادرة، والقائمين على المشروع إلى عدم دعمه أو رفده بما يحتاج للإبقاء عليه كاستثمار، فلا أحد وعلى وجه الخصوص صاحب رأس المال يمكن أن يستثمر في مشروع خاسر وهو يدرك ذلك، وهذا يعني فقدان الزخم الكبير من الدعم والدفاع داخلياً وخارجياً عن الكيان والمشروع.

صحيح أن لا أحد يستطيع التنبؤ بما ستؤول إليه الأمور في “كيان” الاحتلال حتى هم أنفسهم، لكن من الواضح جداً أن الصدع يتعمق، والشرخ يزداد حدة، والقادم أسوأ على كل حال.

والسؤال الذي يمكن أن يفرض نفسه الآن بفعل الواقع الموضوعي:

هل سينهار الكيان الصهيوني ويتفكك من الداخل؟!

إن مسألة تفكك الكيان من الداخل وزواله يتحدث عنه الكثير من منظري وقادة الكيان، ومنهم جدعون ليفي الذي قال: لن يستطيع أحد وقف عمليات التدمير الذاتي الداخلي الإسرائيلي، فمرض “إسرائيل” السرطاني قد بلغ مراحله الأخيرة ولا سبيل لعلاجه، فيما قال المؤرخ بني موريس: إن “إسرائيل” مكان تغرب فيه شمسه وسيشهد انحلالها أو غمرها في الوحل، وخلال سنوات سينتصر الفلسطينيون والعرب والمسلمون وسيعود اليهود أقلية في هذه الأرض. وتأتي هذه الأقوال بالتزامن مع تصاعد عمليات المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية وفقدان الجيش الصهيوني للاستعداد للتضحية وخوفه من الخسائر البشرية واعتماده الكلي على سلاح الجو وعدم القدرة على المخاطرة بأي عمليات برية وتراجع الروح القتالية والخوف من ترابط الساحات وحرب متعددة الجبهات، وهذا يضع الكيان أمام مخاطر وجودية تدفعه للسؤال عن مصيره المحتوم.

نذكر هنا عدد من الآراء الصهيونية حول مصير ومستقبل الكيان حيث يقول “مائير دجان”، الرئيس السابق لجهاز الموساد بأن الكيان الصهيوني على شفا كارثة في المستقبل القريب نتيجة لما يعانيه من أزمات داخلية.

وكان أبراهام بورغ قد حذَّر من الموافقة على قانون تعريف دولة “إسرائيل” كدولة يهودية، مؤكداً أن ذلك سيمثل بداية نهايتها، فهو وضع تفجيري للدولة، ومن ثم دعا كل من يمكنه الحصول على جواز سفر أجنبي لفعل ذلك، استعداداً لما هو قادم، يقول بورغ: “لقد أصبحت إسرائيل جسداً بلا روح واتخذت طريقاً واحداً مدمراً، دون أن تحاول رسم طريق بديل”.

أما البروفيسور “إسرائيل شاحاك” فيقول بأنه متأكد من أن الصهيونية ستندثر في المستقبل فهي تعمل بعكس الآراء المشتركة لمعظم شعوب العالم، مؤكداً أنها ستجلب كارثة على المنطقة، وقبل كل شيء على اليهود أنفسهم.

الصحافي يوسي بيلين في “يديعوت أحرونوت” كتب بأنه يشك في استمرار الوجود الإسرائيلي طويلاً.

أما أكثر الآراء أهمية فهي لمؤسسي هذا الكيان، الذين تكشف آراؤهم أن الزوال بأعينهم، هو نتيجة حتمية لا مفر منها، فـ”ديفيد بن غوريون” عاش ومات، وهو مقتنع بحتمية زوال الكيان بعزيمة الأجيال الفلسطينية الجديدة، فقد روى زميله المقرب “ناحوم غولدمان” في كتابه المفارقة اليهودية، تفاصيل لقاء ليلي مطول له مع بن غوريون في منزل الأخير سنة 1956، خصه فيها بالكشف عن آراءه الصادمة:

  • اعترف له بحق الفلسطينيين بأرضهم، مؤكداً أن كيانهم هو كيان احتلال.
  • توقع ألا يدفن ابنه “عاموس” في الكيان، لأن الفلسطينيين لن يسكتوا ولن يرضخوا لاحتلال أرضهم ومقدساتهم.
  • لا يوجد لـ “إسرائيل” مستقبل على المدى الطويل دون تسوية سلمية مع العرب.

أما “غولدمان” الذي كان من أعلام الكيان، حيث أسس وترأس “المؤتمر الصهيوني” لسنوات، ذكر في عدة كتب له أن دولة “إسرائيل” سوف تختفي من الوجود إن هي ظلت تمارس الإرهاب اليومي، ولا تعترف بوجود دولة فلسطينية، داعياً الجيل “الإسرائيلي” القادم بأن يعترف بحق الشعب الفلسطيني في الوجود.

في حوار صحفي نشر في يناير 2019، الآونة الأخيرة رسم المؤرخ الإسرائيلي الشهير بيني موريس صورة قاتمة لنهاية “إسرائيل” كما يراها، وافترض أفقاً زمنياً لهذه النهاية المحتومة في رأيه.

موريس يقدم جل أفكاره بنفس واقعي بعيد عن الرغبات والتمنيات غالباً، ويقول في الحوار الذي أجرته معه صحيفة هآرتس “الإسرائيلية”: “لا أرى لنا مخرجاً”، وذلك في معرض حديثه عن فرص “إسرائيل” في البقاء كـ “دولة يهودية”.

ويمضي شارحاً: “اليوم يوجد من الفلسطينيين أكثر من اليهود بين البحر (المتوسط) والأردن. هذه الأرض بأكملها ستصير حتما دولة واحدة ذات أغلبية فلسطينية”. ويضيف أن “إسرائيل لا تزال تدعو نفسها دولة يهودية لكن حكمنا لشعب محتل بلا حقوق ليس وضعاً يمكن أن يدوم في القرن الحادي والعشرين، في العالم الحديث. وما أن تصبح لهم حقوق فلن تبقى الدولة يهودية”.

وفي هذا الصدد يؤكد الكاتب الإسرائيلي جدعون ليفي أن الإسرائيليين قد استولوا على أراضي الآخرين وذبحوهم، وأنه إذا نال الفلسطينيون حقهم، فإنه عند ذلك وفي تلك اللحظة يمكن التأسيس لعلاقة مختلفة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، أما الاستمرار في سياستها الحالية هو تدشين لنهاية الدولة الصهيونية.

في مقابلة موسعة أجرتها الصحفية “سارة حلم” لموقع ميدل إيست آي البريطاني، قال المؤلف والباحث “الإسرائيلي” ياكوف شاريت إنه لا يأسف فقط على “تسوية النقب” في أربعينيات القرن الماضي، وإنما يندم على المشروع الصهيوني بأكمله.

ويضيف “نحن نعيش على السيف” كما قال موشيه دايان القائد العسكري “الإسرائيلي” الشهير، ويتابع: “كما لو أننا يجب أن نضطر لجعل إسرائيل نوعاً من القلعة ضد الغزاة، لكنني لا أعتقد أنه من الممكن أن نعيش بالسيف إلى الأبد”.

والأمر لم يقتصر على كتاب ومفكرين يهود وصهاينة، بل تناول العديد من المسؤولين السياسيين الصهاينة مسألة ما أسموه “عقـــدة الثمانين”، وهي ما يدعونه العمر الذي عاشته مملكة اليهود في فلسطين، حيث قال نتنياهو في إحدى جلساته المغلقة: “إن مملكة الحشمونائيم نجت فقط ثمانون عام، وأنه يعمل على ضمان أن إسرائيل سوف تنجح هذه المرة في الوصول إلى مائة عام”.

وهذه المخاوف والهواجس المسيطرة على قادة الاحتلال تؤشر إلى أن خطورة ما يواجهه الكيان وفقاً لتقارير ودراسات هو تبدد هويته، وضياع شخصيته، وهذا ما دفع آلافاً من الطيارين المقاتلين وعناصر وحدات “غولاني” والوحدات الخاصة وخبراء “السايبر” والتقنية العالية وأقطاب الاقتصاد والأوساط الأكاديمية، للانخراط في الصراع الدائر حول مستقبل الكيان الذي باتوا يرونه في خطر.

ويسيطر هاجس انقسام وانهيار الكيان على تفكير القادة الإسرائيليين، وكان رئيس الوزراء السابق إيهودا باراك قد أبدى مخاوفه من قرب زوال “إسرائيل” قبل حلول الذكرى الـ 80 لتأسيسها، مستشهداً في ذلك بما ادعى إنه “التاريخ اليهودي” الذي يفيد بأنه لم تعمر دولة  لليهود أكثر من 80 سنة إلا في فترتين استثنائيتين، ويؤكد المؤرخ الإسرائيلي يوفال نوح هراري، في مقالة نشرها موقع القناة 12، أن “إسرائيل” تسير في طريقها إلى الدكتاتورية، وأن الوسيلة الوحيدة لمنع ذلك، هي خروج الإسرائيليين للشوارع ومواجهة حكومة نتنياهو تحت شعار “أوقفوا الانقلاب أو نوقف الدولة”.

ووسط هذه الأحاديث بدأ الجنود بالتغيب عن الخدمة، احتجاجاً على التعديلات القضائية، ويهددون “الوحدة والاستعداد العسكري”.

وكان الرئيس السابق لشعبة الاستخبارات العسكرية “أمان” تامير هايمن قد قال: إن “الجيش الإسرائيلي أدخل في معركة لا يستطيع الانتصار فيها (الانقسام الداخلي)، وهذا ما يقلقني، ولا يهم أي من الأطراف ينجح، لكن الجيش في كل الأحوال لا يستطيع النجاح”. وأضاف “إذا أقرت كل هذه القوانين فسنرى حينها تزايداً في عدم التطوع وانعدام الرغبة في التجنيد”، مشيراً إلى أن “هذه ليست مسألة رفض أوامر، فالجيش من السهل عليه معالجتها، وإنما هو انعدام التطوع”.

وهذه التصريحات المرتبطة بمسألة تأجيل التفكك والانقسام والزوال تؤكد أن المجتمع الصهيوني منذ نشوئه في عام 1948 بعد احتلال فلسطين، لم يقم على أسس ومعايير سليمة كبقية المجتمعات الإنسانية في مختلف أنحاء العالم، وما يميزه أنه مجتمع استيطاني إحلالي تشكَّل من مهاجرين من أكثر من 100 دولة في العالم، نقلتهم الحركة الصهيونية تحت مزاعم مختلفة إلى فلسطين، ثم إلى يومنا هذا استمرت حركة نقل اليهود من أنحاء المعمورة إلى فلسطين المحتلة دون توقف، وهي تشكل المصدر الرئيسي لزيادة عدد سكان اليهود في الأراضي المحتلة.

ومنذ اليوم الأول لتأسيسه، حمل هذا المجتمع في داخله بذور الانقسام والصراع المجتمعي، بسبب الاختلاف في الهويات، والانتماءات الثقافية، والفكرية، والجغرافية، والمجتمعية بتعدد الدول التي انتقل أو ينتقل منها اليهود إلى الأراضي الفلسطينية، وهذا ما ظهر جليًّا في ظهور تباينات مجتمعية تحت مسميات مختلفة في مختلف مراحل حياة الكيان الصهيوني، فحسب الأصول ينقسم المجتمع الصهيوني بين “الإشكنازي”، و”السفارديم” و”الفلاشا”، وكذلك سياسيًّا منقسم بين اليمين واليسار والوسط، وفكريًّا ودينيًّا هناك متدينون (حريديم) وعلمانيون، وغيرها من المسميات.

ويعتبر أهم عامل تسبَّب في حدوث هذه الشرخة المجتمعية في “الكيان”، هو انعدام هوية موحدة تجمع هؤلاء المهاجرين في وعاء واحد، ويعود ذلك إلى انتماء المهاجرين المستوطنين في فلسطين المحتلة إلى بلدان وهويات وثقافات مختلفة في العالم. وهناك عوامل أخرى مثل تراجُع حركات اليسار، وعلمانية الكيان، وصعود حركات اليمين المتطرف والمتدينين، والتي زادت من الشروخ والصراعات، وهذا التراجع الذي بدأ في سبعينيات القرن الماضي حينما فاز حزب الليكود اليميني، وأنهى بذلك تفرد حزب العمل بالحياة السياسية.

وإلى جانب هذا الصراع المجتمعي بين مختلف التوجهات الفكرية، والسياسية، والدينية في “إسرائيل”، يعاني المجتمع الصهيوني مشاكل اجتماعية، تقول عنها “ياعيل دايان”: “من يقرأ ويتقصى الحقائق ويتعمق في الداخل الإسرائيلي ويطلع على التناقضات والمشاكل الداخلية يدرك ضعف هذا المجتمع وفراغه من الداخل؛ بل وكمّ كبير من الصراعات والمشكلات والفساد والشذوذ”.

ولأسباب عديدة لم يطفح هذا الانقسام الخفي داخل المجتمع الإسرائيلي على السطح سابقًا، علماً بأن الصراعات التي يعاني منها الصهاينة ستصل إلى حالة الانفجار في المستقبل القريب، وهذه الصراعات المجتمعية باتت تقود المجتمع الصهيوني نحو التفكك والزوال أكثر من قبل.

والصهاينة اليوم هم أقل تفائلاً وأكثر خوفاً وتراجعت ثقتهم بجيشهم الذي كان لا يقهر، ولكن الحكومة “الإسرائيلية” الحالية، ومن أجل تأجيل حدوث التفكك والانقسام والزوال، تعمل على مزيد من بناء المستوطنات والجيوب الاستيطانية في الضفة وضم الأراضي وتعزيز الاستيطان وتهويد الجليل والنقب، بما يظهر المشروع الصهيوني بصيغة اليمينية الدينية المتطرفة الحالية، ويعيد الصراع إلى أصوله وبداياته للسيطرة على المزيد من الأراضي والتضييق على الفلسطينيين في كل فلسطين التاريخية، رغم انشغال المنظومة الأمنية والسياسية والإعلامية “الإسرائيلية” بالإصلاحات القضائية والاحتجاجات القائمة ضدها.

ولذلك يتوقع الاستمرار بملف الاستيطان باعتباره العنصر الرئيسي المحرك والموجه لسياسات الكيان الصهيوني وحكومته الحالية التي تتبنى الاستيطان والأمن كعوامل مشتركة تساهم في تغيير الواقع الراهن لصالح الحكومة الحالية في نظرتها في مسألة حسم الصراع.

وفي سياق استمرار عمليات الاستيطان يتمادى الاحتلال بمصادرة الأراضي بهدف استيطانها، من خلال بناء المزيد من البؤر والمشاريع الاستيطانية الكبرى، خاصة في مدينة القدس المحتلة بهدف تغيير واقعها التاريخي والقانوني والديمغرافي والثقافي والديني.

وقد اعتبر العام الماضي من الأعوام الأسوأ والأصعب، في ظل ما شهده من تصاعد في وتيرة الاستيطان وتوسيع المستوطنات أولاً، وزيادة عنف المستوطنين في الضفة الغربية والقدس المحتلتين ثانياً. خصوصاً في ظل الحكومة الجديدة لليمين الفاشي المتطرف برئاسة بنيامين نتنياهو وشركائه إيتمار بن غفير وسموتريتش.

وقد ساهمت المحكمة العليا التابعة للاحتلال، التي وضعت برامج السيطرة على الضفة الغربية والقدس وحتى الجولان العربي السوري رغم الخلاف، بفتح الطريق أمام اليمين الصهيوني الفاشي والمستوطنين لشرعنة البؤر الاستيطانية، حيث يولي هؤلاء المستوطنون أهمية كبيرة لقرار المحكمة، فبعد أن أزالت محكمة الاحتلال العليا القيود، سيفتح الباب واسعاً أمام عمليات استيلاء هائل على أراضي الفلسطينيين.

وكان وزير الاستيطان الصهيوني “تساحي هنغبي” قد تعهد خلال كلمة له أمام الكنيست، في ضوء اتفاقه مع رئيس حكومة الاحتلال نتنياهو، على تسوية أوضاع 70 بؤرة استيطانية مقامة على أراضي الضفة المحتلة، وتحويلها إلى مستوطنات، وهي الخطوة التي باركها مجلس مستوطنات الضفة الغربية، وطالب بتطبيقها على الأرض وبالسرعة الممكنة عبر تشكيل طاقم لتسوية أوضاع عشرات البؤر الاستيطانية.

والانقسام اليوم هو أكثر مما يقال عن كونه أيديولوجي بين الديني والعلماني، وطائفي بين الأشكناز والسفرديم، أو السياسي بين اليمين واليسار، أو طبقي بين الأغنياء والفقراء، أو جغرافي بين المركز والأطراف، أو انقسام يفصل الصهاينة المتدينين عن الأرثوذوكس المتطرفين، بل هو أعمق وأكثر حدة على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي ومستمر بالاتساع.

ومن مؤشرات صعوبة إنهائه طرح البعض تقسيم الكيان الذي يسير نحو الهاوية إلى كيانين منفصلين أو “مملكتين”، واحدة علمانية وثانية دينية.

ويرفض أصحاب هذا الطرح تسمية طرحهم بالمنزلق الخطير؛ لأنه من وجهة نظرهم يؤجل مسألة الزوال النهائي والتي أصبحت فرضية واقعية اليوم، وسط الهواجس الأمنية والنزعة الاستيطانية التي تحاول فرض نفسها بقوة السلاح وعصابات المستوطنين للحفاظ على البقاء والاستمرار والقول بأن المشروع الصهيوني لم يحسم بعد بل هو مستمر بنفس الأساليب والأهداف.

مع العلم بأن النتيجة الطبيعية والحتمية أن يعيش الكيان الصهيوني المؤقت مأزقاً وجودياً يؤرق قادته وداعميه، كونه مولود غير طبيعي وكيان غير قابل للحياة ومعرض رغم كل محاولات التأجيل للتفكك والانقسام والزوال.

 

للحصول على نسخة PDF اضغط هنا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى